مجزرة الخرطوم ( 6)


تعرضت في الحلقة الخامسة من هذه المقالات – وبحسب التسلسل السردي لصاحب كتاب ( مجزرة الشجرة ) الأستاذ حسن الطاهر زروق – تعرضت بالكتابة عن ما انتهت إليه أرواح كل من الملازم أول/ أحمد جبارة مختار ، الملازم أول/ أحمد عثمان عبد الرحمن الحاردلو و الرائد/ بشير عبد الرزاق. وأواصل في هذه الجزئية من المقالات استعراضي للكتاب محور الحديث وكنت قد ختمت المقال السابق بأني قد وعدت جمهور القراء في هذه الحلقة بأن أفتح الصفحة السادسة والثلاثين مرة أخرى لأقرأ لكم ما كتبه المؤلف عن الناجين من محاكم النميري فنتعرف – نحن معشر القراء – بدايةً على ذلك الجريح الذي احتمى بإحد منازل قشلاق المنطقة العسكرية فنالوه جراء ذلك طلقة في فخذه الأيمن، ضاعفت من جراحه الحسية والمعنوية.


الملازم/ صلاح بشير عبد الرحمن:

(( بعد توقف القتال في كتيبة جعفر في جنوب غرب مدينة أم درمان كان الملازم صلاح مصاباً بجرح، فإتجه نحو أحد منازل قشلاق المنطقة العسكرية لإسعاف جرحه. ولكن الجندي صاحب المنزل كان قد سمع نداء السفاح من راديو ام درمان بضرب كل من اشترك في الحركة وسحق الشيوعيين فحاول إرغام صلاح على تسليم نفسه )). (مجزرة الشجرة ص:36).

هكذا بدأ لنا المؤلف حكاية الملازم صلاح، لكن الحكاية لم تنتهي عند المشهد أعلاه، لعلها بدأت للتو ((ولما رفض صلاح بدأ صاحب المنزل يتصرف بحركات متشنجة فزعة. فحمل بندقية الخرطوش وخرج من داره وبدأ يصيح بأعلى صوته بضرب الخونة المتمردين والشيوعيين. وبدأ صلاح في مقاومته فأطلق عياراً من بندقية أصاب صلاح في فخذه الأيمن. وقبل أن يطلق العيار الثاني هجم عليه صلاح وبدأ يقاومه. رغم جراحه فأمسك بمؤخرة البندقية، لكن الطلقة الثانية أصابت صلاح في ذراعه الأيمن وفقد وعيه وبعد ذلك تعاون الجندي مع بعض المارة وجنود الردة وحملوه إلى المستشفى العسكري في السلاح الطبي. وعندما استعاد وعيه صباح الجمعة 23 – 7 سأل إحدى الممرضات المشرفات على علاجه عن تطورات الأحداث فأخبرته بما حدث )). ( مجزرة الشجرة ص:37 ).

وعلى الجانب الآخر توفرت الحيرة أيضاً ((حتى ذلك الوقت تلك اللحظة كانت قوات الردة لا تعرف من هو صلاح لهذا اعتنوا بعلاجه وحولوه إلى عنابر الدرجة الأولى في غرفة واحدة مع مزمل غندور الذي كان معتقلاً قبل 19 يوليو. وإستمر علاج صلاح بعناية فائقة طيلة نهار الجمعة والسبت. فعندما جاء خالد حسن عباس ومجموعة من بطانته لتفقد الجرحى هنأ صلاح بالنجاة ظناً منه بأنه من قواته، وقال له "مبروك وما يهمك برضوا راجل". طيلة هذه الفترة كانت قوات الردة تعلن عن بحثها عن صلاح بشير )). ( مجزرة الشجرة ص:37 )

ينتقل بنا – نحن معشر القراء – ينتقل بنا صاحب ( مجزرة الشجرة ) ليميط اللثام عن الأساليب المتعددة التي انتهجها نظام النميري لاستخلاص المعلومات من المعتقلين . فبعد أن تعرف عدد من ضباط الصف بسلاح المدرعات على الملازم/ صلاح بشير عبد الرحمن، إنقلبت الآية وأضحى الاهتمام بالمريض إلى إيذاء وترويع ((في الساعة التاسعة مساء حضر الضابط خالد الأمين الحاج ( أخ اللواء السابق مقبول الأمين الحاج وقريب خالد حسن عباس) ومعه الرائد شرف الدين أحمد مالك من الاستخبارات بالمهندسين، والرائد فتحي أبو زيد، والرائد تاور وحفنة من الجنود، وأحد صف الضباط يحمل قيداً حديدياً للأيدي وحبل تيل. وهجم خالد الأمين على صلاح وقال: "علاج كمان؟ قوم حيلك". وانتزع الدرب الموصل بين زجاجة الدم ووريد صلاح بعنف وقسوة )). ( مجزرة الشجرة ص:38 )

وتزداد وطأة التعذيب رغم أنه هناك تدخل من قبل الممرض الذي ((...... أخبر خالد الأمين ان صلاح واهن القوى لأنه مصاب بإصابات خطيرة ولا يستطيع الحركة. فأمر خالد الجنود بقوله: "كتفوه!" فأوثقوا الحبل حول قدميه ووضعوا القيد على معصميه ثم أمرهم: "شيلوه" وبدأ الجند بلا رحمة أو شفقة في تنفيذ الأوامر وبصورة قبيحة ومشينة، فحملوا صلاحاً كالخروف المذبوح عارياً حتى من الغطاء الأبيض والقوة في قاع عربة عسكرية على فخذه المصاب ففقد وعيه. واستيقظ في اليوم التالي وعلم انه بغرفة في سلاح المهندسين )). ( مجزرة الشجرة ص:39 )

ومن جديد عاود النزيف الملازم صلاح بشير عبد الرحمن (( وكان خالد عباس وجنوده قد انزلوا صلاحاً من العربة بنفس العنف أمام جمهرة من الجند وألقوا به في غرفة القرقول مما تسبب في نزيف حاد حتى فكوا القيود عنه وتركوه ينزف )). ( مجزرة الشجرة ص:39 )

ثم إن إغماءات الملازم قد توالت (( مرة أخرى حضر خالد الأمين ومعه زبانيته. وبدون مقدمات بدأ يرفس صلاح بقدمه وبضربات قاسية وكان يوجه ضرباته نحو الجروح، ثم على الرأس والوجه حتى أغمي على صلاح وفقد وعيه مرة أخرى )). ( مجزرة الشجرة ص:39 )

وعندما استعاد الملازم/ صلاح بشير عبد الرحمن وعيه (( ... قال له خالد: "شوف يا ابن الكلب حتلاقي نفس الضرب والتعذيب وأسوأ من ذلك إذا ما اجبتنا على الأسئلة اللي حنسألك ليها". فقال له صلاح "انت اسأل ووحأجاوبك على ما أعرفه". وكانت أسئلة خالد مثل كل أسئلة تلك الأيام تدور حول تنظيم الضباط الأحرار، والخلايا الشيوعية في الجيش، كيفية تنظيم الحركة، السلاح المفقود من كتيبة ام درمان وسلاح المظلات، المصير الذي حدده قادة الحركة لأعضاء مجلس 25 مايو الخ ... )) ( مجزرة الشجرة ص:39 – 40 )

ورغم ان ردود وإجابات المعتقل المصاب كانت منطقية - في رأي الشخصي - فقد أوضح للواء/ خالد حسن عباس – نائب رئيس الجمهورية المخلوع جعفر محمد نميري - أوضح له (( ... "بأنه ليس عضوا ً في تنظيم الضباط الأحرار، وانه فصل من القوات المسلحة بدون أسباب يعلمها قبل فترة وانه لا يعرف شيئاً عن الخلايا الشيوعية ولا يعرف معنى كلمة خلية. أما كيفية تنظيم الحركة فأنا لست قائد الحركة لأعرف كل تفاصيلها. أنا اعادوني للقوات المسلحة وكلفوني بواجب عسكري معين نفذته كعسكري. والسلاح المفقود لابد أن يكون أخذه مدنيون من الشوارع. أما مصير أعضاء مجلس 25 مايو ( نميري وزمرته) فقد كان معروفاً لكل الناس انهم سيقدمون لمحاكمة مفتوحة للشعب، ولو كان هنالك اتجاه لإعدامهم كان من الممكن لأي جندي أن يطلق رصاصه على كل منهم منذ الساعات الأولى بعد 19 يوليو" )). ( مجزرة الشجرة ص: 40 )

غير أن حديث المنطق لم يجدي لتتواصل اسأليب الترهيب والتعذيب لاستخلاص المعلومات، ويكمل حسن الطاهر زروق الحكاية التراجيدية بتعقيب لخالد حسن عباس فور اكمال الملازم لردوده (( .. قال خالد: " يعني ما عايز تقول الحقيقة، طيب" وبدأ يعيد الرفس والضرب والتعذيب حتى أوقفه الضباط الذين كانوا معه وقالوا له "سيبه كفاه خليه لينا". فخرج من الغرفة وهو يهدد صلاح بقوله "تاني الشمس ما حتشوفها بعينك". بعد ذلك أخرج الضباط أحذيتهم الثقيلة وبدأوا يضربون صلاح حتى أصيبت أذنه بإصابة خطيرة. وكان الضابط شرف الدين يقف بعيداً ولا يشترك في الضرب، فقالوا له: "تعال هاك يا شرف اتسلى". اشتد التعذيب على صلاح، صاح فيهم أوقفوا الضرب عشان اتكلم. فتوقفوا ولكن بعد أن استعاد صلاح أنفاسه قال لهم: شوفوا أنا عارف كل حاجة لكن ما حأتكلم أشوف حتعملوا شنو" فخرج أحد الضباط وأحضر بندقية ج3 وضعها على جبين صلاح إذا لم يتكلم. فقال له صلاح: "أضرب عشان نموت زي الرجال الاستشهدوا". ولكنهم قالوا له: "لا ما حنكتلك بالسرعة دي. لازم تتعذب وتموت موت بطئ". ثم خرجوا متوعدين بالعودة مرة أخرى )). ( مجزرة الشجرة ص: 41 )

كما أن هنالك طريقة أخرى غير أسلوب الترهيب والتعذيب لاستخلاص نفس المعلومات يوردها الكاتب في الصفحة التالية (( ... قام أحد ضباط الاستخبارات بمحاولة جديدة ناعمة. فقال لصلاح أنهم مستعدون لتقديم ضمان كتابي من نميري وخالد حسن عباس بالبراءة واحتلال منصب كبير. شريطة أن يقدم ما لديه من معلومات ويصبح شاهد ملك. شكره صلاح على ذلك وقال له: "ضع نفسك في مكاني، فهل يمكن أن ترتكب مثل هذه الخيانة لكي تعيش؟ " )). ( مجزرة الشجرة ص: 42 )

ينقلنا الاستاذ حسن الطاهر زروق – نحن معشر القراء – مع الملازم/ صلاح بشير عبد الرحمن من المعتقل إلى معسكر الشجرة (( ... عادت مجموعة صف الضباط مرة أخرى تحمل الحبال والقيد الحديدي. وكان صلاح في هذه الفترة قد فقد كميات هائلة من دمه وتحولت الملابس البيضاء التي تستر جسده إلى قطعة حمراء لزجة وكانت بقع الدم على بلاط الغرفة أشبه بالسلخانة. أوثق الجند الحبال حول قدميه والقيد حول يديه وطللبوا منه أن ينقلوه للعربة العسكرية. فرفض وأكد لهم انه لن يتحرك ما لم يرتد ملابسه العسكرية أو المدنية وسوف يقاوم حتى الموت. فأنصاعوا لرغبته وأعادوا له ملابسه العسكرية وحملوه إلى معسكر الشجرة. ووضعوه ع بقية المعتلقين )). ( مجزرة الشجرة ص: 42 – 43 ).

وبعد أن يصل الوفد المرافق للمعتقل المصاب، تنعقد محكمة لإدانة الملازم ولعلها جرت فور وصول مجموعة صف الضباط التي قيدت المعتقل بالحبال والقيد الحديدي (( ورغم حالة صلاح المتدهورة أصر السفاح على تقديمه للمحاكمة. وبالفعل بدأت المحاكمة بأن أحضروا ثلاثين جندياً كشهود إتهام وكان صلاح واثقاً من حكم الإعدام. فأستجمع قواه وقال لهيئة المحكمة: "لا داعي لكل هؤلاء الشهود وقد قمت بدوري في الحركة وفي المقاومة ورفضت الاستسلام". وكانت المحكمة تطمع في استخلاص بعض الحقائق مما جعلها تستمر لمدة يومين 25/7 و 26/7 )). ( مجزرة الشجرة ص: 42 – 43 ).

وتجرى الرياح بما لا تشتهي السفن فهنالك إلحاح زملاء المعتقل وتدخل طبي، أخر تدفق سيل المعلومات المطلوبة (( .. وتحت إلحاح الضباط المعتقلين، وتعفن الجروح والنزيف المتصل، اضطرت المحكمة التي كانت تحاكم صلاح وهو محمولاً على النقالة، أو مسنوداً على كرسي، أن توافق على إرسال صلاح للمستشفى العسكري ولكنه رفض طالباً أن يعرف نتيجة الحكم أولاً فإن كان إعداماً فليعدم على حالته تلك، وإن كان سجناً فليذهب على نفس الحالة للسجن ويعالج بعدها كسجين. ولكن استمرار النزيف والإرهاق في المحكمة وإنعدام العلاج والعناية الطبية جعل صلاح يدخل من جديد في حالة الإغماء وفقدان الوعي، وقد نقلوه إلى السلاح الطبي وهو فاقد الوعي، فوضعوه في غرفة القرقول وأقفلوها عليه دون علاج أو أكل لفترة من الزمن، حتى تدخل بعض الأطباء فأوصوا له بسرير وانتظام الغذاء والعلاج. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. واستمر على هذه الحال حتى قرر طبيب جراح إجراء عملية للجرح ونقل إلى غرفة العمليات )). ( مجزرة الشجرة ص: 43 – 44 ).

يعدينا صاحب ( مجزرة الشجرة ) مجدداً لإجواء استخلاص الاعتراف (( ... وبعد لحظات حضر أربعة أطباء يرتدون الروب الأبيض ووجوهم مقنعة بالكمامات الطبية وقالوا لصلاح: "عايزين نتكلم مع الضمير الداخلي بتاعك عشان تورينا بعض الحاجات لأنك في المحكمة ما قلت أي حاجة خاصة عن السلاح المفقود وتنظيم الضباط الأحرار الخ ... " ثم بدأ صلاح يشعر بالدوار، فسألوه: " هل شعرت أنك عايز تنوم؟ " فقال لهم: "نعم" فقالوا له: "طيب جاوب على اسئلتنا" . فقال لهم: " إن ثورة 19 يوليو"، وقبل أن يتم كلامه قاطعوه بقولهم: " لكن هي ثورة أم انقلاب؟ " فقال لهم: " في وجهة نظري هي ثورة، وطبعاً الثورات خشم بيوت" وتوقف عن الحديث )). ( مجزرة الشجرة ص: 44 ).

ويصبح المشهد أكثر مأساوية عندما نعلم – نحن معشر القراء – أن صلاحاً بقي ((... بعد العملية 65 يوماً في غرفة قذرة مليئة بالفئران والحشرات دون أن تنظف الغرفة أو جسم المريض. اتصل صلاح بقائد السلاح الطبي وطلب منه أن يتصل بالجهات المختصة لتبلغه بالحكم لينفذ إن كان إعداماً أو سجناً بدلاً من الانتظار على تلك الحالة غير الإنسانية، وانه يرفض مواصلة العلاج بذلك المستوى )). ( مجزرة الشجرة ص: 44 )

وأخيراً ثمة ضوء في هذا السرداب التاريخي المظلم فقد (( حضر أحمد محمد الحسن وأخبر صلاح أن الحكم قد صدر عليه بالإعدام ولكنه طلب من السفاح تخفيضه إلى 20 سنة سجناً ، إلا أن السفاح رفض لأن صلاح لم يدل بأي معلومات عن الحركة والسلاح المفقود والخلايا الشيوعية في الجيش وتنظيم الضباط الأحرار. فطلب منه صلاح أن يعمل بتنفيذ الحكم لأنه لن يتكلم. فقال له أحمد محمد الحسن: " سوف نعطيك فرصة ثلاثة أيام " . فرفض صلاح، وظل أحمد محمد الحسن يتردد عليه الأيام الثلاثة، ولكن بدون جدوى. أعلم صلاح بالحكم 20 سنة سجناً. ونقل إلى سجن كوبر في أواخر سبتمبر 1971، وظل يعاني من الجروح الثلاث وبقايا شظايا الخرطوش في فخذه وإصابة أذنه )).


محاكمة الدكتور مصطفى خوجلي :

هكذا بدأت الحكاية : (( تم إعتقال الدكتور مصطفى خوجلي في صباح الجمعة 23/7/1971 وتم نقله إلى معسكر الشجرة. ثم أعيد إلى وزارة الداخلية لترحيله إلى سجن كوبر. ثم أعيد من جديد لمعسكر الشجرة بطلب من السفاح، فوضع في الغرفة رقم (1) مع 23 ضابطاً. كان النهار قد انتصف وبدأت الإعدامات. إلا أن روح الضباط المعتقلين كانت عالية، ومستوى ثباتهم وشجاعتهم تفوق كل تصور. وكان في الغرفة المجاورة قادة حركة 19 يوليو )). ( مجزرة الشجرة ص: 45 – 46 )

وتتصاعد الأحداث منذ البداية ففي (( ... صباح 24/7 حوالي الساعة التاسعة، اقتحم خالد حسن عباس الغرفة متهيجاً ومعه الضباط فتحي أبو زيد، فتوجه نحو دكتور مصطفى وبدأ يكيل له الاتهامات والاستفزاز، وقال له أنت السبب في كل هذه الحوادث وقتل الأبرياء. وبعد لحظات دخل الغرفة محترف القتل ضباط المظلات محمد إبراهيم واقتاد مصطفى إلى مكتب السفاح الذي يجلس على يساره خالد حسن عباس وعلى يمينه أبو القاسم محمد إبراهيم وفتحي أبو زيد. انتفض السفاح من مقعده واتجه نحو مصطفى وبدأ يضربه بقبضة ويكيل له سباباً بذيئاً. وقال له: " انت عايز تبقى رئيس وزراء انت تعرف إيه عن السودان؟" )). ( مجزرة الشجرة ص: 46 )

يخبرنا – نحن معشر القراء – يخبرنا حسن الطاهر زروق عن مشهد تحديد الحكم من قبل نظام الرئيس المخلوع جعفر محمد نميري (( وعندما عاد السفاح إلى مجلسه قال له خالد: افتكر أحسن نلحقه أصحابه عشان يعالجهم في الآخرة. وكانت أمام السفاح ورقة عليها أسماء الذين سيعدمون مكتوبة بقلم الرصاص وأصاف اسم مصطفى خوجلي لآخر القائمة بكل برود. خرج مصطفى من المكتب وقد تأكد من حكم الإعدام. وتمكن من إرسال رسالة صغيرة لزوجته يخبرها باحتمال الإعدام .. على خفيف على حسب تعبيره )). ( مجزرة الشجرة ص: 47 )

ثم تبدأ التحقيقات بعد أن صدق نميري مسبقاً بحكم الإعدام (( في المساء حوالي الساعة الخامسة والنصف استدعى مصطفى للتحقيق أمام المقدم عبد الله اليأس الذي أدار التحقيق ليبرهن أن مصطفى خوجلي عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني )). ( مجزرة الشجرة ص: 47 )

غير أن أكثر المشاهد عبثية في محاكمة دكتور مصطفى خوجلي – في نظري – كانت حيث قال (( له المحقق: " هناك شاهد يثبت عضويتك في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني" فتأجل التحقيق ثم عاد مصطفى لغرفة المعتقلين فوجد بها الشهيد جوزيف قرنق الذي أحضر من كوبر صباح الأحد 25/7 استدعى دكتور مصطفى للتحقيق الذي تأجل لعدم حضور الشاهد ثم استدعى في المساء بواسطة المقدم عبد الله اليأس فدخل المدعو معاوية ابراهيم مخموراً وبادر مصطفى بقوله إزيك يابو خوجلي لسع في حركاتك دي ثم توجه ممثل الاتهام بسؤال لمعاوية عن معرفته للمتهم فقال انه يعرف منذ عام 1956 وعملا سوياً في الحزب الشيوعي خلال سنوات الحكم العسكري وما بعد ثم في مكتب العلاقات الخارجية ولكن بعد ثورة مايو أصبح من جناح عبد الخالق الذي بدأ يعمل لتحطيم الثورة " . ثم انهى حديثه وأقسم على المصحف ووقع على أقواله ورفض دكتور مصطفى أن يتوجه إليه بأي سؤال )). ( مجزرة الشجرة ص: 48 )

وتتواصل جلسات المحاكمة وفي مساء الاثنين 26 – 27 أخذ مصطفى إلى المحكمة وكانت برئاسة العقيد قسم الله الحوري وعضوية المقدم مهدي المرضي والنقيب كامل مساعد. وكان ممثل الاتهام المقدم عبد الله اليأس فوجهت المحكمة تهمتين لمصطفى: العضوية في قيادة الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يعمل للإطاحة بالسلطة. وتحطيم ثورة مايو والوحدة الوطنية ... الخ. والثانية قيام الحزب الشيوعي بانقلاب مسلح لاستلام السلطة والعقوبة بالإعدام )). ( مجزرة الشجرة ص: 48 – 49 )

ورغم أن دفوعات المحكم عليه بالإعدام كانت – في رأيي الشخصي – مقنعة وأكثر إفحاماً لهيئة المحكمة. إلا أن رئيس المحكمة رفضها جملةً وتفصيلاً، يطلعنا صاحب ( مجزرة الشجرة ) على الأحداث ويصطحبنا عبر الصفحة الخمسين من كتابه محور العرض، فنشاهد دكتور مصطفى خوجلي وقد كرر (( ... أقواله التي أدلى بها في التحقيق ولكن المحكمة أجابت بأنها سوف تستدعي شاهد الاتهام وحضر المدعو معاوية إبراهيم مرة أخرى وكرر أقواله نفسها ولكنه أضاف إليها أن مصطفى كان مسئولاً عن عمل الحزب في الجامعة لتنفيذ مخططات عبد الخالق محجوب وعن العمل وسط الأطباء لتنفيذ المخطط نفسه، وكلا المسئوليتين مركزية. بعد ذلك توجه دكتور مصطفى بسؤال واحد للمحكمة: " إذا أراد شخص ما أن يثبت أنك عضو في تنظيم معين ناهيك عن قيادته فلابد لهذا الشخص أن يثبت أولاً أنه عضو وقيادي في ذلك التنظيم فهل الشاهد عضو في الحزب الشيوعي السوداني حتى 19 يوليو؟ " رفض رئيس المحكمة السؤال على اعتبار أنه تجريجي وأخيراً رفض دكتور مصطفى الإدلاء بأقوال أو تقديم سؤال ووجه حديثه للمحكمة: " الواضح أن مهمة المحكمة صورية وأنني أعرف أن الحكم مقرر سلفاً لذلك يصبح من العبث دخولي في مناقشة معكم الثلاثة ولنا لقاء قريب" ثم ألقى المقدم عبد الله الياس مرافعة الاتهام وانفضت المحكمة )). ( مجزرة الشجرة ص: 50 )

ثم يسدل حسن الطاهر زروق الستار على آخر مشهد في محاكمة دكتور مصطفى خوجلي (( وفي الساعة العاشرة مساء استدعى دكتور مصطفى لمكتب العقيد أحمد محمد الحسن رئيس القضاء العسكري وتلى عليه الحكم بالسجن عشرين عاماً. وفي حوالي الساعة الرابعة صباحاً حضر أبو القاسم محمد إبراهيم مخموراً إلى الغرفة وكان دكتور مصطفى نائماً. فأيقظه أحد جنود المظلات وأمره بالخروج، وعندما قابل أبو القاسم ابتدره قائلاً: "حصل إيه؟ " فسأله مصطفى: " في إيه؟ " قال: "في الحكم". فقال مصطفى: "عشرين سنة". قال: "مبروك" وانصرف. وفي صباح الثلاثاء 27/7 تم نقل دكتور مصطفى إلى سجن كوبر ولما فض ضباط السجن الظرف المختوم بالأحمر والذي يحوي الحكم ووجد العقوبة سجناً نهض وعانق دكتور مصطفى )). (مجزرة الشجرة ص: 50)


رائد/ مبارك حسن فريجون:

في البدء يكتب الاستاذ حسن الطاهر زروق عن ما حدث بعد انتهاء المعركة وبعد ((.. مقاومة كتيبة جعفر البطولية بأم درمان، تم اعتقال الرائد فريجون. ومنذ لحظة اعتقاله حاول جنود المظلات إطلاق النار عليه وإعدامه وأطلقوا عليه وإعدامه وأطلقوا بالفعل عدة أعيرة تجاهه لولا تدخل عريف من المدرعات طلب من الجند أخذه حياً لأنه مطلوب في معسكر الشجرة )). ( مجزرة الشجرة ص: 51 )

ومرة أخرى ينجو الرائد من الموت فعندما ((... أوصلوه إلى سلاح المهندسين حاول الرائد فتحي أبو زيد أن (يتفرسن) ويتجاسر فأصدر الأوامر للجند بإعدام مبارك ومن معه من الضباط والجنود. ومرة أخرى تدخل ضباط من سلاح المهندسين وحالوا دون ذلك )). ( مجزرة الشجرة ص: 51 )

ولأن المحن لا تأتي فرادى، يتعرض الرائد/ مبارك حسن فريجون هذه المرة للتشهير العالمي – إن جاز لي التعبير – فيلجأ نظام الرئيس المخلوع جعفر محمد نميري هذه المرة للصحافة مجدداً كما فعلاً سابقاً مع السكرتير السابق للحزب الشيوعي السوداني: عبد الخالق محجوب، وذلك (( ... في صبيحة 23/7 نقل مبارك إلى الشجرة حيث قوبل بحشد من الجنود الذين صرفت لهم أوامر من مجلس الثورة للإرهاب والاستفزاز وتحقير ثوار يوليو وفي نفس اليوم أخذت له خلاصة البيانات ثم تجمع حوله عدد من الصحفيين الليبيين والمصريين ومعهم العميد أحمد محمد الحسن الذي أعلن لهم: "هذا هو الرائد فريجون من الخونة " وردح على الطريقة المصرية بينما كان الصحفيون يلتقطون الصور )). ( مجزرة الشجرة ص: 51 – 52 )

وتبدأ محاكمة الرائد يوم ((.. السبت 24/7 بدأت المحاكمة التي كان يتشوق لإصدار حكمها بالإعدام كل من أحمد عبد الحليم وأحمد محمد الحسن. وبدأت المسرحية بتلفيق تهم غير محددة واحضار شهود من الضباط والجنود الموالين للردة لطبخ الأقوال وإثبات الإتهامات وتصوير الأحداث بطريقة تخدم أهداف مجلس ثورة السفاح )). ( مجزرة الشجرة ص: 52 )

غير أن الحكم أتى مخففاً مقارنة بالإعدام طبعاً ، ففي اليوم التالي (( .. يوم 25/7 أعلن أحمد محمد الحسن أن الحكم هو 7 سنوات سجناً وتم ترحيله إلى سجن كوبر. وبعد عشرة أيام تم استدعاء الرائد فريجون إلى وزراة الداخلية وفتح ضده بلاغ جديد بنفس التهمة التي سبق وحوكم كان خفيفاً نسبة للمعلومات التي توفرت فيها بعد رغم مخالفة ذلك للقانون العسكري. وبعد تحقيق دام 15 يوماً وشهرين من الانتظار أخطر الرائد فريجون بشطب القضية لأسباب سياسية )). ( مجزرة الشجرة ص: 53 )

في الحلقة السابعة بإذن الله يحدثنا صاحب ( مجزرة الشجرة ) عن المعتقل الذي تم نقله في حراسةٍ مشددةٍ من ولاية الخرطوم لولاية شمال دارفور. وبشيء من التحديد نقل من سجن كوبر بمدينة الخرطوم بحري إلى سجن شالا بمدينة الفاشر ( حاضرة ولاية شمال دارفور ) ليقضي فترة عقوبته هناك.


Comments