مجزرة الخرطوم ( 1 )

(( إلا أن الأهم والعاجل هو سرد ورصد الحقائق والوقائع، ثم بعد ذلك الجو العام أو الإطار الذي تم فيه. فكيف يمكن لسجل في أجزائه المقبلة, أو فيما يكتبه المبدعون تجاه مشهد الشهيد جوزيف قرنق ( وزير شئون جنوب السودان ) بعد أن احضروه من سجن كوبر. وهو يحاول أن يبث نسمة من المرح في ذلك الجو المتوتر، فيخاطب الجنود والضباط المعتقلين: ( حتجوا كوبر وتلقوني هناك تأكلوا معاي الجراية .. وتلقوا ملاح شوية لكن أصله ما بكمل. تغمس فيه الجراية تطلع ناشفة )! أو مشهده أمام حكمدار سجن كوبر الذي فض الظرف وأطلعه على الحكم وسأل جوزيف الهادئ الممتليء باليقين والسكينة، إن كان يعرف الحكم. فأجابه جوزيف ( لكن أنا ما تحاكمت – ما كان في محكمة ). وبنفس الهدوء تناول قلماً وورقة وكتب رسالة ووصية لصديقه جرفس ... من بين كلماتها "ثواني وينتهي الأمر، تماماً مثل طائرة تهوي في البحر ... " وكيف يمكن للزمن أن يمحو مشهد الشهيد عبد الخالق محجوب وهو يرفض دخول قاعة المحكمة إلا بعد أن يأتوه بملابس وأداوت حلاقة وحذاء وعطراً من منزله. ويقول للجنود والضباط. "دا مش عشاني أنا، أنا أصلا حأعدم. دا عشانكم انتو. عشان سمعة السودان والجيش لأنه في صحفيين أجانب ". ثم مشهده وهو يجيب على أسئلة الصحفيين الذين التفوا حوله وهو مبتسم رابط الجأش كأنه يمارس نشاطه السياسي اليومي. أو مشهده وهو يداعب الجندي المسؤول عن الشنق. ( يا زول حبلك دا قوي أنا وزني تقيل)). ( مجزرة الشجرة : ص 6، 7).

بهذه الفقرات التي وردت ضمن كتابه ( مجزرة الشجرة ) يروي لنا الاستاذ حسن الطاهر زروق حقائق ووقائع مجزرة الخرطوم التي حدثت بإحد معسكرات الجيش السوداني بحي الشجرة الخرطومي وفي كتابه محور العرض يفيدنا الكاتب بأن (( الحقائق والوقائع – عارية باردة مجردة – نطرحها أمام جماهير الشعب السوداني حول ما دار في معسكر الشجرة منذ مساء الثاني والعشرين من يوليو (تموز) 1971 حتى أواخر أغسطس (آب) من العام نفسه حيث استدل الستار على المجزرة، حمام الدم، حفلة الإعدامات، انفلات الغرائز الوحشية، وتصفية الحساب مع ربع قرن من تراث وأمجاد الثورة السودانية الوطنية الديمقراطية)). ( مجزرة الشجرة: ص 1، 2).

ويؤكد الكاتب على مبدأ التحقق والتثبت في سرده للوقائع وإعماله في التفحيص والتمحيص قبل نشر هذه الأحداث ويطلعنا – نحن القراء – على أهمية الاتجاه للتوثيق لشهداء الثورات السودانية منذ عام 1924م وحتى تاريخ كتابته لمؤلفه ( مجزرة الشجرة ) لأن (( حقائق استشهادهم ظلت تناقلها الألسن فترة من الزمن ثم يطويها النسيان ويعاني المؤرخون عنتاً في استقصائها واستجلائها، وتظل وثائق المحاكمات وسجلات التحقيق حبيسة الأركان المظلمة في أجهزة الدولة المختصة. ورويداً رويداً تختلط الوقائع ويذهب الجاني والمجرم والخائن طليقاً بغير حساب، بغير قصاص، هكذا كان مع شهداء 1924، شهداء الجمعية التشريعيةن شهداء جودة، شهداء ساحة المولد، شهداء اكتوبر)). ( مجزرة الشجرة: ص2).

ويحدثنا في ذات كتابه الصادر سنة 1974م عن ( دار الفكر الجديد ) ببيروت. يخبرنا المؤلف بأن الكتاب (( تصدر هذه الوثيقة في الذكرى الثالثة لأحداث السودان في يوليو (تموز) 1971م. لم تكن تلك الماسى المجازر ماساة سودانية فقط. كانت جزءاً من مخطط متكامل لإطفاء قناديل الساحة العربية في عام 1970 حاولوا اغتيال الثورة الفلسطينة في الأردن وفي عام 1972 شنت الأمبريالية وأداتها الرجعية العربية حرباً لخنق الثورة في عدن في هذه الأيام نشهد استمراراً لهذا المخطط الذي يحاول عبثاً نشر الظلام والإستسلام )). ( مجزرة الشجرة: ص85).

وكأن الكاتب أراد ان يقوم بعمل إهداء لكتابه التوثيقي فنجده قد كتب (( ... وتحية لمنظومة الأبطال: فهد، وفرج الله الحلو وسلام عادل وشهدي عطية وعبد الخالق محجوب واستمراراً في طريقهم المشرق من نضال وقتال )). ( مجزرة الشجرة: ص85).


عن الكاتب:

وجدت هذه السيرة الذاتية – والتي نقلت جزءاً منها فقط – بموقع سودانيز أنولاين ربما تلقي ببعض الضوء على سيرة هذه الشخصية السودانية التي يشار لها بالبنان:

• من مواليد امدرمان 1916م
• تلقى تعليمه بمدارسه امدرمان حتى التحق بكلية غردون التي تخرج فيها عام 1936م
• عمل مدرساً بعد تخرجه بالمدارس الحكومية الوسطى والثانوية
• فصل من وزارة المعارف لنشاطه السياسي فعمل بالمدارس الأهلية
• كان عضواً نشطاً ومؤثراً في مؤتمر الخرجين
• كان من مؤسسي حزب الأحرار ومثله في وفد السودان 1946م
• شارك في تنظيم وقيادة المظاهرات التي قامت ضد الجمعية التشريعية وحكم عليه بالسجن وفصل من عمله كمدرس بوزارة المعارف.
• حين انقسم حزب الأحرار أصبح سكرتيراً لحزب الأحرار الاتحاديين الذي انضم إلى الجبهة المعادية للإستعار والتي صار حسن زروق من ابرز قياداتها.
• انضم للحزب الشيوعي السوداني عند تأسيسه وظل في قيادته حتى وفاته عام 1982 بلبنان وهو في المنفى أثناء ديكتاتورية النميري.
• كان حسن الطاهر زروق معلماً أثر في أجيال من السودانيين كما انه كاتب متميز الاسلوب ساحر العبارة وقد كتب في كل الصحف السوداينة.
• وكثيراً ما اوقعته كتاباته السياسية تحت طائلة القانون فقد حكم عليه عام 1947 بالغرامة عشرين جنيهاً تحت المادة 105 لكتابه مقالاً يحرض فيه على مقاومة الإنجليز وغرم عام 1951م خمسين جنيهاً لكتابته عن قضية انصار السلام والسجن في
العام 1952م شهرين لرفضه توقيع ضمان بحسن السير والسلوك.


الشفيع أحمد الشيخ:

هو أول الشخصيات التي تناولها الكاتب بعد مقدمة كتابه ( مجزرة الشجرة ) ليبدأ فقراته من مشهد خروج الشفيع من مكان محاكمته بمساء الأحد 25 يوليو 1971 (( خرج الشفيع أحمد الشيخ من المكتبة حيث كانت تجري محاكمته، فوجد الشهيد جوزيف قرنق ودكتور مصطفى خوجلي جالسين على المنضدة المخصصة للتحقيق في البرنده. وقف بضع دقائق مع دكتور مصطفى وقال له "تصور أن شاهد الاتهام ضدي هو معاوية إبراهيم سورج وسمعت انه سيحضر شاهد اتهام ضدك". وكانت شهادة معاوية كما أرادها السفاح وزمرته تنصب على إثبات أن الشهيد الشفيع عضو لسكرتارية الحزب الشيوعي وبالتالي فإنه يعرف التنظيم العسكري للحزب ومكان إحفاء أسلحة الحزب)). ( مجزرة الشجرة: ص11).

ينتقل الكاتب لمشهد دخول الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم لمكان التحقيق وسؤاله عن مكان عبد الخالق محجوب ولما لم يجد من مصطفى خوجلي أو جوزيف قرنق (( نزل من البرندة واتجه نحو الشفيع الذي بادره بالتحية ولكن أبو القاسم عاجل الشهيد الشفيع بلكمات متتابعة على وجهه ورأسه. وبصق على وجهه ووواصل عدوانه ضرباً بقبضته ورفساً بأقدامه. تجمع حول الشهيد الشفيع اثنا عشر شخصاً من جنود وضباط صف وضباط المظلات المشرفين على التعذيب والإعدام وكان من بينهم الرائد علي حسن اليماني والنقيب محمد ابراهيم الشايقي والرائد عبد القادر حسين)) ( مجزرة الشجرة: ص 12).

بشيء من التفصيل يروي الكاتب كيف تواصل تعذيب الشفيع أحمد الشيخ قبل أن يعاد (( إلى غرفة المعتقلين حيث عاد المعتقلين من التحقيقات والمحاكم. أخبر أحد المعتقلين وهو يجاهد ليحافظ على ابتسامته المشرقة على وجهه: " عذبوني أبو القاسم وجماعته ولا يهمكم ". وقد رد عليه بعض الضباط المعتقلين: "طبعاً انتو ما ليكم دخل بكل موضوع دا وما حتجيكم حاجة". رد عليهم بقوله: "يا ابنائي نحن من سنة 1948 نتوقع الموت في أي لحظة. ولو نحن متنا الحياة حتمشي"). ( مجزرة الشجرة: ص 13، 14).

ويذكر الكاتب بعض من اعاد عليه الشفيع أحمد الشيخ داخل زنزاته من حرصه الشخصي على نظافة المكان مستعينا بذلك بمكنسة يطلبها من الحرس ويحرص على أن يقوم بهذه النشاط اليومي باكراً ثم يغادر قلم حسن الطاهر زروق الزنزانة التي ضمت الشفيع فيمن ضمت ليصحبنا أجواء المحاكمة حتى ندرك نهايتها (( انتهت محاكمة الشهيد يوم الاثنين 26-7-1971 وساقوه إلى سجن كوبر مساء ذلك اليوم وهناك أعدم شنقاً )). ( مجزرة الشجرة: ص 15).


هاشم العطا:

يمسك حسن الطاهر زروق قلمه ليكتب لنا – نحن القراء – عن الساعات الأولى لإعتقال هاشم العطا (( في غرفة قرقول سلاح المدرعات قضى الشهيد هاشم الساعات الأولى لاعتقاله موثوق اليدين، مستلقياً على ظهره. كان رغم الارهاق ثابتاً هادئاً ومبتسماً كعادته. وعندما حانت منه التفاته نحو بعض الضباط المعتقلينن خاطب أحدهم - الملازم هاشم المبارك – في مزاح قائلاً: "هاردلك يا هاشم". وبعد لحظات دخل الغرفة الملازم كمال سعيد صبرة وبدأ يستفز الشهيد الذي نظر إليه في سخرية واستخفاف. فوطأ الملازم نظارة الشهيد التي كانت ملقاة على الأرض بجانبه وحطمها)). ( مجزرة الشجرة: ص 16).

ثم يورد جانباً مما حدث بين هاشم العطا والنميري (( حاول السفاح أن يبدأ التحقيق مع الشهيد هاشم، فرفض وأعلن أنه لن يدلي بأي أقوال إلا أمام محكمة علنية "لأنكم ستشوهون أقوالي وتحرفونها". وعندما حاول النميري أن يستفز الشهيد، زجره وأوقفه عند حده وقال له: "لست نادماً على ما قمت به. وإن كان لي أن أندم فلأنني تركتك ثلاثة أيام وعاملتك معاملة كريمة". )) ( مجزرة الشجرة: ص 16).

بعد ذلك جاءت مشاهد الإعدام تترى (( اتجهوا بالشهيد نحو دروة المورس لتنفيذ الإعدام ولكنهم كانوا – جميعاً – في حالة فزع واضطراب، فلم ينتظروا وصوله للدروة بل عاجلوه ومن الخلف بإطلاق 800 طلقة على ظهره حتى انفصل نصفه الأعلى قبل أن يسقط على الأرض، وظلوا يطلقون الرصاص عليه حتى بعد استشهاده. وواصلوا اطلاق الرصاص على جثته وحولها وفي الهواء حتى افرغوا أربعة صناديق من الجبخانة (الصندوق يحوي ألف طلقة) من بنادقهم الأربعمائة بما فيها المدافع الصغيرة)). ( مجزرة الشجرة: ص 17)

ويواصل حسن الطاهر رزوق سرده ((وظل إطلاق الرصاص متصلاً بغير توقف حتى تأكدوا من أن الشهيد قد تحول إلى كومة من شرائح اللحم والعظام الهشة وأنه لن يعود للحياة ليلحق الهزيمة بهم)). ( مجزرة الشجرة: ص 18).


Comments