بشرى الفاضل .. وأقصاصيه التي اطارت عصافيرنا ( 2 – 4 )

( مر أحد بغاث البرجوازية في محطة ذات إزعاج بمركب نوح التي نركبها، وكان قبل ساعة من مروره يخطب ويخطب حتى أدركه النعاس فنزل من صهوة عبارة مستهلكة مضغها خمس مرات وصفق له جمهور من دهاقنته عشر مرات وكان بعض التصفيق للتحية والمجاملة وبعضه الآخر للمجاملة الصرفة )

الغازات ص (73)


البداية:

تضم المجموعة القصصية التي عنونها الأديب بشرى الفاضل بـ ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها ) تضم اثنتي عشرة قصة قصيرة بدءاً بـ ( حملة عبد القيوم الانتقامية )، ( ذيل هاهينا مخزن احزان )، ( بقرة في زمن الثوب البهيج )، ( كرسي يتناثر )، ( الطفابيع )، ( الصواريخ )، ( النفس الأخير )، ( هاء السكت )، ( مقاطع قصصية )، ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها )، ( حمامة فرت من قسورة ) و ( الغازات ).


حملة عبد القيوم الانتقامية:

(( قف! هذه نوافير من السائل الأحمر ترشح من المداخل، والمخارج، وأخرى تنز من البطن المبقورة، هل هصرت الطماطم يوماً في عيني جارك في مطعم عام حتى سال اكسير حياتها؟ ذلك حال جسد عبد القيوم ( ساعتشئوم ) رمت به راجلاً في طريق عام وهو الراكب شبابه كله. يصرخ المرء – يقولون – ثلاثاً ولكن عبد القيوم يصرخ بلا حصر: في المظاهرات والعراك والسكر وصرخة أخيرة حين دهسته العربة الزيتية ذلك المساء )). القصة: ص (15)

بهذه الفقرة الطويلة – نوعأ ما – نلتقي نحن القراء بعبد القيوم ذلك الذي عشق قيادة السيارات في صغره فيحاكي صوتها وهو في مشاويريه اليومية - بناء على رغبة امه – من البيت إلى الحانوت القريب كيما يبتاع سكراً، شاياً وزيتاً .. إلخ.. إلخ. لم يكن عبد القيوم يلقي بالاً للزراعة او للتجارة كنا يرغب في قيادة السيارات عندما يصير رجلاً حتى كان ذلك اليوم ( ولكن عربة ذات سفرة جذبته إليها فأذعن .. اقترب من سائقها واتفق معه على السفر المجاني على أن يقوم برمي (الصاجات) كلما غرقت العربة وكان الرمل بحر! ) القصة: ص (15 )

سعى والديّ عبد القيوم كثيراً لثنيه عن امتهان قيادة الشاحنات الكبيرة خوفاً على حياته الشابة. لكن عبد القيوم لم يلقي بالاً لحديث والديه بل طلب منهما أن يشيعانه بالدعوات والبركات. غير ان الاحداث سارت في اتجاه مغاير تماماً لدعوات الوالدين فعبد القيوم توفي في حادث سير ليس هذا فحسب ولكنه عاد لتوه من قبره بعد ان دهس سائق – عن طريق الخطأ - القبر الذي يضم رفاته ( وكانت بالقبر المهتوك حركة .. أطلّت جمجمة من الكوّة المتاحة تلفتت يمنة ويسرة وأعادت رأسها إلى القبر في هدوء . مرة أخرى , الجمجمة لم تر اللص الذي يخبئ وارده في قبر مجاور ولم تشم رائحة الفجر ولم تسمع صوت الآذان المصري اللكنة .. ولم ! كانت جمجمة مثقوبة في الجبهة بنفس موضع هلال العرس . مثل شوكة سمك البلطي انسلّت الجمجمة من القبر , متبوعة بالهيكل العظمي المتبقي من كائن ما : إسمه عبد القيوم . أحدث الهيكل جلبة لا قبل للحذر بتفاديها ومشى طاخ تراخ طاخ نحو البلدوزر). القصة: ص (17)

وإذا بالبلودوز التي يقودها الهيكل العظمي لعبد القيوم تنطلق في الشوارع دون قواعد مرورية وتحصد كل ما ومن يقف في طريقها دهساً فتصرع السيارات والسابلة والمحال التجارية وغير ذلك حتى انتهت الحملة الانتقامية للنيل ( وانعطف بعد أن كنس كل البيوت والعمارات التي قابلته وأطفأ غضبه في النيل .. كان النيل رحباً .. وكان يقبل الجميع ويطيّب خاطرهم . إتجه البلدوزر وتابعه إلى العمق وهناك إقتربت سمكة بلا زعانف وفيما بعد حكت لصويحباتها عن جمجمة مثقوبة تقول بغ – بغ – بغ وكيف أنها حين ولجت بداخلها لم تجد لحماً ينبت لها زعانفها . ضحكت صويحباتها وسبحن معها حول وتحت وفوق وعلى وفي البلدوزر وصاحبه عسى ولعل , لكن فقاقيع من الغضب كانت وحدها تخرج من بين الجسمين الملتحمين معاً بإلفة شديدة) القصة: ص (18).


ذيل هاهينا مخزن احزان:

يأخذنا الكاتب في هذه الأقصوصة لمفاهيمه تجاه عالمه ومحيطه المعرفي معبراً عنه ببطلين من عالم الكلاب هما: الكلبة هاهينا وصديقها الكلب هواهي!! الذي لاكثر من سنة يعيش في حب معها ويعيش في حالة حزن ايضاً ( حيث ايجار الازقة الضيقة أصبح عشر قضمات من قبل عصابات الكلاب المقيمة فيها) القصة: ص (19)

ثم إن الرواي يحكي لنا - نحن معشر القراء - كيف ومتى إلتقى البطلان؟ ( تعرفت هاهينا على صديقها في حلقة نقاش لأفكار الفيلسوف هوكس. كانت الحلقة غاصة بالكلاب ) القصة: ص (19)

وفي تلك الحلقة حدث الانبهار لهواهي وحده من بين كل الكلاب .. الانبهار فالإنجذاب فالحب ( ومن بين كل هذه اعجبها هواهي لفصاحته وجرأته ووسامته.

( كانت هاهينا خارج الصورة في الحلقة، إذ لم تقرأ شيئاً للفيلسوف المذكور، بيد انها لم تكن أمية. ولعل موانعها تأتي بالدرجة الأولى من مشاغلها الكثيرة. دحض هواهي تخرصات الجميع في الحلقة، وحين انفض سامر المجتمعين خرج منتشياً، تبعته هاهينا مصدره صوتاً خجولاً، ولكنه مع ذلك جاذب للانتباه. نهاية الامر تعارفا وبعد شهور تحابا ) القصة: ص (19)

ولكن دوام الحال – كما يقال – من المحال .. فحينما كان بطلا القصة يشاهدا الاخبار عبر التلفاز اوضح مذيع الاخبار ان لا وجود لمرض السعر بين الكلاب وبالتالي لكن يحدث قتل للكلاب بحسب تصريح مصدر مسئول – وصفه الراوي بأنه مصدر مسؤول من قبل الاسياد. ولكن في الصباح حدث ما لم يكن بالحسبان فقد صحت هاهينا مذعورة اثر صوت هائل وكان هواهي غارقاً في دمائه ( وجرى دمعي لا كما يجري دمع إمراة كاذبة في مأتم مفتعل ولكن كدمع التماسيح المفترى عليها ) القصة: ص (22)

بعد مسيرة خمسة ايام تلتحق هاهينا بغابة هوكس فستقبل بفرح عظيم وبعد ان تسر حكايتها وجدت الدعم من جميع الكلاب وناولها احدهم كتاب هوكس ( العظام عبر التاريخ ) ومما جاء في الكتاب ( أول من ابتدأ الضحك كان كلباً واسمه لاف. رأي إنساناً يضرب اخاه بفأس، الأول يضرب ويضرب، والثاني يجري ويجري فيلحق به الأول ويلطمه فضحك لاف حتى برزت نواجذه ثم ضحك: هو هو.
فتلقفها الانسان وحرفها بحيث اصبحت ها ها ها. ووضع لذلك قانونا اسمها الاعلال والابدال. قال كلب: هو هو فصاغ الانسان الضمائر: هو، هي، هما، هن، هم. انفرجت اساريري وأصبحت سعيدة اثر قراءتي). القصة: ص (23)

وتستمر هاهينا في قراءة كتاب الفيلسوف هوكس لتكتشف اشياء غريبة. قبل ان تنتهي القصة بنهاية أسيانة ( كانت السماء شديدة الصفاء، نجمة الكلاب المضيئة نفضت عينيها فتطاير منها شعاع أصفر غمر الكون كله. وشهدت بأم عيني العشب ينمو، والنمل يجمع قوته. والطيور تصدح، وغمرني فرح فجائي حتى انحدرت دمعة من عيني اليسرى وما صددتها، ثم في اليمنى وما صددتها وصرت شديداً جداً أبكي: أبكي ثم أبكي ملء الفم والحنجرة والذاكرة، في ذلك الصباح المشرق ) القصة: ص (25)


بقرة في زمن الثوب البهيج:

هي ثالثة قصة من قصص مجموعة بشرى الفاضل، يحكي لنا الرواي فيها زيارته هو وطيفور لزميلهما درديري قريته. وهناك روى لهم درديري عن ذلك اليوم الذي اتباع فيه والده بقرة. وكيف ان هذه البقرة كانت معطاءة ( ثم اعطتنا لبناً كثيراً وساخناً. وشربنا منه حتى تلملمت الأواني في ايدينا. وقالت والدتي: كفاكم ثم اردفت ينفعكم. وأحمد ما شرب اللبن وحين أوشكنا على النوم ظل يغيظنا صائحا وهو مدثر: مياو – مياو ويغتاظ عبد الله ويضربه ثم ناو فيصب عبد الله كوبا من الماء البارد في وجهه. فتسكن لاقطة في أحمد غاضبة أو تستحيل كلباً ). القصة: (27 – 28)
ولتلك البقرة ارتباط عند درديري بالفرح ( اختلط فرح الناس بفرح أمي واخوتي وفرحي بالبقرة فصارت على مر السنين عندي مقرونة بأحاسيس تلك الأيام. وكلما سمعت نشيداً تذكرت بقرتنا تلك بل كانت اكتوبر ايامها تعني لي " الثوب المزركش" الذي اشتراه أبي لأمي ورائحة ( السيد علي ) في زمن دخول البقرة لحظيرتها ). القصة: ص (28)

ولكن تنتهي دورة حياة البقرة – محور ذكريات درديري – بعد رحلة من العطاء ( التقى ظلفها بحجر فتلبس الأخير فيه ثم حل بالقرية الطاعون البقري فنفقت البقرة الأمثولة). القصة: ص (28)


كرسي يتناثر:

( اعتقلوا قاسم فجرا بضجيج وحقد، هدموا نظام البيت وايقظوا والدته واباه وصغيرهما معتز الذي ما كان يدرك انه سيهتف بعد سنوات طويلة عندما تجي الهبة ( يحيا الشعب ). واقتيد قاسم بعد ان تم زجر والدته الباسلة ولجم والده الغاضب وبعد تسليم معتز للتوتر كانت كتب تحت اقدام الهمج. وكانت تحت مرمى طلقاتهم مهج. وصاحوا في قاسم وهم يخرجون به اين المنشور؟) القصة: ص (35)

كذلك بدأت الاقصوصة الرابعة من اقاصيص ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها ) وبعد ان نتابع – نحن معشر القراء – بكل اهتمام حكاية قاسم يفاجئنا بشرى الفاضل بأن القصة ليست عن قاسم. ليحدثنا عن عبد الجبار الذي زار صديقه النائب الهمام ومقصده اخراج ابنه قاسم من المعتقل وننساق وراء تفاصيل ما جرى في حضرة النائب الهمام لياغتنا بشرى الفاضل مجدداً بأن الحكاية ليست عن عبد الجبار.

وليست القصة عن آمنة التي هم ام لقاسم وكما ان القصة ليست عن الخليفة أو السلاطين أو القبائل كذلك بل هي عن كرسي تم تداوله ( من بطن إلى بطن إلى أن عاد لأمدرمان سالماً وانتقل إلى آل حيازة التي خرج من نسلها عبد الجبار فنبذ الحيازات كلها إلا هذا الكرسي العجيب ). القصة: ص (36)

Comments