القصة عند استيلا قايتانو .. - زهور ذابلة - نموذجاً ( 3 – 5 )
في الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات، قمت بسرد سيرة
ذاتية مقتضبة عن كاتبة المقالات والقاصة استيلا قايتانو وتعرضت بالحديث عن
مجموعتها القصصية التي عنونتها بـــ ( زهور ذابلة ) متناولاً حسب الترتيب
التسلسلي: قصة ( كل شئ هنا يغلي "1" : نحو الموت والسجون ) والقصة الثانية
في المجموعة ( كل شئ هنا يغلي "2" : نحو الجنون ). أما بالمقال الثاني في
هذه السلسلة تناولت بالحديث القصة الثالثة في مجموعتها وهي قصة ( وليمة ما
قبل المطر ).
أواصل في هذة الحلقة ملء الأوراق البيضاء التي بحوذتي مستعرضاً بالحديث القصة الرابعة من المجموعة القصصية ( زهور ذابلة ) للكاتبة استيلا قايتانو. وقصتها الرابعة حملت عنوان ( خرائط لعوالم مجهولة ).
خرائط لعوالم مجهولة:
تبتدر استيلا قايتانو قصتها بهذة الجمل ( أحس بقسوة الأرض عندما ايقظته بلكمة لم يحدد هل كانت مؤلمة أم لا؟ ولكنها أيقظته في فزع، بعدها تمدد قليلاً على إيقاع مفاصله المتصلبة ... ) ص 43
من التي لكمت من؟ نجد تعريف الذي تلقى اللكمة في الفقرة التالية، ولكنه تعريف شحيح بعض الشيء – إن جاز لي التعبير – ( عند استيقاظه رأى الخارطة التي رسمها تبوله الليلي، لابد أنها بلاد يحلم بزيارتها يوماً، كم كان يحب دروس الجغرافيا، قبل أن يترك المدرسة، يلقي نظره نحو شقيقته التي كانت ترمقه بنظرة قاسية تجبره على النهوض، يرتفع بجسده عن الأرض في كسل وتعب شديدين، وآلاف الحصى والأتربة تتشبت به وبثيابه التي بالكاد تستره ). ص 43
تترك استيلا الحديث عن الشقيقة التي لكمت شقيقها، فنتركها نحن القراء أيضاً ومن البديهي أن تكون الشقيقة هي الأكبر سناً وإلا لما تلقى الشقيق اللكمة على مضض وربما إذعان دون أن يبدي أي ردة فعل. ونتابع مع استيلا، الصبي في سيره لحنفيات المسجد المجاور حتى يغتسل ويصب الماء على سرواله لإزالة اثار البول، ( .. ثم يعود ادراجه خارج الأسوار حيث اصطفاف المتسولين بصورة مقززة، يفكر: لكل شئ بقايا وأوساخ يجب أن تلقى، فنحن قاذورات البشر يجب أن تلقى على الرصيف، أطفال يفتك الرمد بعيونهم ويترك آثار جريمته في شكل إفرازات صفراء مائله للإخضرار على جانبي العين، كبار السن يتآكلون تحت وطأة الجذام وسائر الأمراض المتخلفة، ثياب تجيد فضح العورات أكثر من سترها ) ص 43، 44
هذا ما كان بشأن الأخ، فماذا عن الأخت؟ ( هي تكبره بعامين في العاشرة من عمرها، رغم أنها كانت تبدو أصغر من ذلك بكثير، نسبة لقلة حجمها، سمع أن عروس البحر نصفها الأعلى إنسان والنصف الأسفل سمكة، أخته كذلك نصفها الأعلى حي أما النصف الأسفل فميت، يقال أنها أصيبت بشلل الأطفال.
كان يحملها على ظهره خلال جولاته حول المدينة بحثاً عن ما يسد الرمق، يتجول بها النهار كله، كانت مهمته أن يخترق بها الزحام في الأسواق والطرقات والبصات، وكانت مهمتها النشل ). ص 44
ذاكرة الصبي تدخل الأب ضمن شخصيات القصة حينما يحدث نفسه ( كان أبي متسولاً وكفيفاً، كنت أخاف من بياض عينيه الفاسدتين كأنه يراني دون سائر الخلق، في العادة لا أنظر إلى وجهه حتى أكاد أنسى ملامحه، أيضاً كان خلفي، كنت اتجول به بين السيارات الفارهة، وأخرى كانت تقل ركاباً، فينطلق لسانه بسيل من الدعوات الصالحات لمن يعطيه ومن لا يعطيه، وكثيراً لا يعطيه أحد ) ص 45
كان الصبي معجباً بالسيارات التي يقترب منها هو ووالده ويتمناها لنفسه، حتى كان اليوم الذي وجد فيه غطاء لعلبة صدئه ازال عنها التراب وامسكها بكفه، يديرها يميناً ويساراً ويصدر اصواتاً بفمه وانفه تحاكي ما تصدره السيارات، ( إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم، عندما كبر حلمي وأصبحت سيارتي كبيرة حمراء أقودها، أتوقف عندما تضيء الإشارة الحمراء لن أرفع زجاج سياراتي في وجه أبي، أحببت سيارتي ونسيت اليد الملتصقة بكتفي أسرعت لأتفادى السيارة التي كانت ستحطم سيارتي وتحولها إلى عجينة وهربت بالسيارة، وكان أبي كبش الفداء ). ص 46
الصبي يعدو بكل قوته مبتعداً عن مكان الحادث ويلقي بسيارته - التي رأى انها السبب في مقتل والده – يلقيها في أقرب بالوعة ويعود إلى مأواه بقرب المسجد فتسأله اخته عن ابيه فخبرها بأن هنالك سيارة قد دهسته فتبكي الاخت بحرقة ويعلو صوتها حتى يتجمع حولهما بقية المتسولين. ( أحسست حينها بفاجعة عظيمة تكرر المنظر، إلتفاف الناس حول أختي مثل إلتفاف هؤلاء حول جثة أبي، تسللت مرة أخرى أعدو في الطرقات دون وعي، حافياً أحاول ستر عريي التهبت قدماي من قساوة الأرض وجدت نفسي في مكان الحدث، تجمد دم أبي، أرى التماع لونه القاني على أضواء السيارات، جفت الدماء والسيارات تمشي عليها تقشرت الدماء من الأسفلت وتطايرت مثل قشور الفول المدمس، رأيت ملايين القشور تقتلع من الأسفلت وتتجه نحوي، تطاردني، تخنقني، تمنع عني الهواء، تتراكم فوقي تدفعنني ثم أغيب عن الوعي ). ص 48
التقى الصبي ببعض المتشردين وقضى معهم بقية يومه وهم يروون ما شاهدوا من أفلام هندية مقلدين حركات الأبطال ومرددين الأغاني وفي الليل ذهب معهم للسينما لمتابعة نهاية الفيلم ( تحركت سيارة داخله، لتصدر أصواتاً مكتومة في أحشائه، تذكر شقيقته، تسلل من داخل السنيما واخذ يبحت عنها شارعا شارعا، كان وحيداً في مدينة خلت من الناس والروائح، وحيداً في شوارع بإمتداد الأيام المحزنة، وحيداً في عالم واسع سعة الثقوب في القلوب
( عاد إلى المأوى بعد رحلة بحث غير موفقة، كان خائفاً إذا سأله أحد: أين أختك؟ وجدها مستقلية وتتنفس بإنتظام، عندما أحس بشئ من الرضا، أخذ خرقة ثم رتقها بأقمشة من الألوان، ألقاها على جسدها النحيل، واستقلى قربها متنفساً الصعداء
في الصباح الباكر أيقظته لكمة مميزة، نظر إليها، كانت تعابير وجهها تقول أن شيئاً لم يحدث البارحة، عاد بنظراته المكسورة ينثرها على ما رسمه تبوله الليلي من خرائط لعوالم مجهولة). ص 48، 49
رحيل:
هي اقل قصص المجموعة القصصية من حيث الكلمات ولكنها في رأي أكثر قصص المجموعة قتامة وحزناً فعندما قرر الراوي ( أن ينبذ اليأس الذي عشعش في داخله عناكب في غرفة مهجورة، وأن يدفن حزنه حياً بين طيات جروحه، رمى بكل آلامه في غياهب الذاكرة). ص 55
خرج الراوي للشارع محاولاً أن يخرج من يم ذكرياته التعيسة، معلقاً في شفتيه ابتسامة تعبر عن فرح انتصاره على ذكرياته ( ناسياً وفاة زوجته الشابة، وغرق إبنه الذي لم يتعدى العام في بالوعة المنزل نتيجه إهماله، فُصل من العمل لإصابته بحالة نفسية عصبية ). ص 55
حينما جلس في المقعد مواجهاً الركاب كان يتأملهم باحثاً في وجههم عن الأمل وكان سعيداً لأنه يختلف عنهم في احساسه بالفرح، إلى ان جاءت تلك المرأة التي تصفها استيلا قايتانو بأنه ( إمرأة أبنوسية اللون زنجية التقاطيع، وإستوائيه الملامح، ذات شلوخ في شكل نجمة كثيرة التفرعات تزيّن خدودها الذابلة تحمل رضيعاً لا يقل عنها نحولاً وهزالاً ). ص 55
ولأن الراوي كان يريد ان يوزع سعادته على الجميع فقد نهض من مقعده وأسنده المرأة حتى تمكنت من الجلوس مكانه. نظر إليها بعد قليل احس بحزنها فقرر أن يواسيها وخمن ان طفلها مريض وهي في طريقها للمستشفى لكنها لا تملك النقود الكافية لعلاجه ( في تلك اللحظة تحسس جيبه ليطمئن على نقوده، قال بينه وبين نفسه: سوف أكون معها حتى تعالج الطفل، وسوف يتغذى جيداً، وسوف تعود صحته وعافيته.. ). ص 56
توقفت العربة لإنزال احد الركاب، وجاء بائع متجول يعرض انواع من الحلوى منادياً بها، فأخرج الرواي ورقة مالية واشترى مجموعة من الحلوى مختلفة الألوان. وعندما تحركت العربة من جديد ( ومروحة سعادته تزداد إضطراباً، قدم لها الحلوى وهو يخاطبها ذات ركاكة مفعة بالرجاء: خذي هذا من أجل الطفل كان مبتسماً إبتسامة مضطربة خوفاً من الرفض. قالت بلغة أكثر ركاكة: جنادي موتو كلاص .. ( لقد توفي هذا الطفل )، رشحت طفلها بنظرات تحمل كل الأسى، ثم دموع ساخنة تنهمر نحو الجثة الصغيرة كأنها تريد اغتساله ..) ص 56
غامت الدنيا في عيني الراوي ورأى الدنيا بمنظارٍ غاية في السواد فترك العربة ونزل وساقته قدماه إلى شاطئ النيل، ولنصغي لاستيلا وهي تصور لنا ما يعتلج في دواخل الراوي ( .. وقف يحدق في الماء أمواج تولد فجأة وتموت منتحره تحت قدميه، صور لطيور رسمت على صفحة النيل فاردة اجنحتها مرفرفة معلنة بالرحيل، أسماك تضرب أحشاء النيل بزعانفها سابحة نحو الرحيل، شمس منحنية في الأفق تجمع أشعتها عن وجه الدنيا إرهاصاً بإنتهاء يوم لتحبل بيوم جديد. إجتاحه حزن ذا جذور ضربت في أعماقه لهذا اليوم الراحل، شعر أن أصابعه قد إلتحقت ببعضها البعض، فتح كفه فإذا بالحلوى ما زالت هناك، كان مطبقاً عليها بقوة عجيبة، حتى عرقت كفه وذابت ألوانها واختلطت أصفر في أحمر، أخضر في أزرق، أحمر في أخضر، أقامت الحلوى مأتماً بدموعها الملونة على كفه، قال من خلال ابتسامة ساخرة يائسه تحتضر في جانب ثغره: هذه أيضاً حلوى لطفل رحل ). ص 57
- أواصل بإذن الله -
نشرت بموقع الحوار المتمدن - العدد ( 4439 ) بتاريخ 30 أبريل 2014م على الرابط التالي:-
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=412761
أواصل في هذة الحلقة ملء الأوراق البيضاء التي بحوذتي مستعرضاً بالحديث القصة الرابعة من المجموعة القصصية ( زهور ذابلة ) للكاتبة استيلا قايتانو. وقصتها الرابعة حملت عنوان ( خرائط لعوالم مجهولة ).
خرائط لعوالم مجهولة:
تبتدر استيلا قايتانو قصتها بهذة الجمل ( أحس بقسوة الأرض عندما ايقظته بلكمة لم يحدد هل كانت مؤلمة أم لا؟ ولكنها أيقظته في فزع، بعدها تمدد قليلاً على إيقاع مفاصله المتصلبة ... ) ص 43
من التي لكمت من؟ نجد تعريف الذي تلقى اللكمة في الفقرة التالية، ولكنه تعريف شحيح بعض الشيء – إن جاز لي التعبير – ( عند استيقاظه رأى الخارطة التي رسمها تبوله الليلي، لابد أنها بلاد يحلم بزيارتها يوماً، كم كان يحب دروس الجغرافيا، قبل أن يترك المدرسة، يلقي نظره نحو شقيقته التي كانت ترمقه بنظرة قاسية تجبره على النهوض، يرتفع بجسده عن الأرض في كسل وتعب شديدين، وآلاف الحصى والأتربة تتشبت به وبثيابه التي بالكاد تستره ). ص 43
تترك استيلا الحديث عن الشقيقة التي لكمت شقيقها، فنتركها نحن القراء أيضاً ومن البديهي أن تكون الشقيقة هي الأكبر سناً وإلا لما تلقى الشقيق اللكمة على مضض وربما إذعان دون أن يبدي أي ردة فعل. ونتابع مع استيلا، الصبي في سيره لحنفيات المسجد المجاور حتى يغتسل ويصب الماء على سرواله لإزالة اثار البول، ( .. ثم يعود ادراجه خارج الأسوار حيث اصطفاف المتسولين بصورة مقززة، يفكر: لكل شئ بقايا وأوساخ يجب أن تلقى، فنحن قاذورات البشر يجب أن تلقى على الرصيف، أطفال يفتك الرمد بعيونهم ويترك آثار جريمته في شكل إفرازات صفراء مائله للإخضرار على جانبي العين، كبار السن يتآكلون تحت وطأة الجذام وسائر الأمراض المتخلفة، ثياب تجيد فضح العورات أكثر من سترها ) ص 43، 44
هذا ما كان بشأن الأخ، فماذا عن الأخت؟ ( هي تكبره بعامين في العاشرة من عمرها، رغم أنها كانت تبدو أصغر من ذلك بكثير، نسبة لقلة حجمها، سمع أن عروس البحر نصفها الأعلى إنسان والنصف الأسفل سمكة، أخته كذلك نصفها الأعلى حي أما النصف الأسفل فميت، يقال أنها أصيبت بشلل الأطفال.
كان يحملها على ظهره خلال جولاته حول المدينة بحثاً عن ما يسد الرمق، يتجول بها النهار كله، كانت مهمته أن يخترق بها الزحام في الأسواق والطرقات والبصات، وكانت مهمتها النشل ). ص 44
ذاكرة الصبي تدخل الأب ضمن شخصيات القصة حينما يحدث نفسه ( كان أبي متسولاً وكفيفاً، كنت أخاف من بياض عينيه الفاسدتين كأنه يراني دون سائر الخلق، في العادة لا أنظر إلى وجهه حتى أكاد أنسى ملامحه، أيضاً كان خلفي، كنت اتجول به بين السيارات الفارهة، وأخرى كانت تقل ركاباً، فينطلق لسانه بسيل من الدعوات الصالحات لمن يعطيه ومن لا يعطيه، وكثيراً لا يعطيه أحد ) ص 45
كان الصبي معجباً بالسيارات التي يقترب منها هو ووالده ويتمناها لنفسه، حتى كان اليوم الذي وجد فيه غطاء لعلبة صدئه ازال عنها التراب وامسكها بكفه، يديرها يميناً ويساراً ويصدر اصواتاً بفمه وانفه تحاكي ما تصدره السيارات، ( إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم، عندما كبر حلمي وأصبحت سيارتي كبيرة حمراء أقودها، أتوقف عندما تضيء الإشارة الحمراء لن أرفع زجاج سياراتي في وجه أبي، أحببت سيارتي ونسيت اليد الملتصقة بكتفي أسرعت لأتفادى السيارة التي كانت ستحطم سيارتي وتحولها إلى عجينة وهربت بالسيارة، وكان أبي كبش الفداء ). ص 46
الصبي يعدو بكل قوته مبتعداً عن مكان الحادث ويلقي بسيارته - التي رأى انها السبب في مقتل والده – يلقيها في أقرب بالوعة ويعود إلى مأواه بقرب المسجد فتسأله اخته عن ابيه فخبرها بأن هنالك سيارة قد دهسته فتبكي الاخت بحرقة ويعلو صوتها حتى يتجمع حولهما بقية المتسولين. ( أحسست حينها بفاجعة عظيمة تكرر المنظر، إلتفاف الناس حول أختي مثل إلتفاف هؤلاء حول جثة أبي، تسللت مرة أخرى أعدو في الطرقات دون وعي، حافياً أحاول ستر عريي التهبت قدماي من قساوة الأرض وجدت نفسي في مكان الحدث، تجمد دم أبي، أرى التماع لونه القاني على أضواء السيارات، جفت الدماء والسيارات تمشي عليها تقشرت الدماء من الأسفلت وتطايرت مثل قشور الفول المدمس، رأيت ملايين القشور تقتلع من الأسفلت وتتجه نحوي، تطاردني، تخنقني، تمنع عني الهواء، تتراكم فوقي تدفعنني ثم أغيب عن الوعي ). ص 48
التقى الصبي ببعض المتشردين وقضى معهم بقية يومه وهم يروون ما شاهدوا من أفلام هندية مقلدين حركات الأبطال ومرددين الأغاني وفي الليل ذهب معهم للسينما لمتابعة نهاية الفيلم ( تحركت سيارة داخله، لتصدر أصواتاً مكتومة في أحشائه، تذكر شقيقته، تسلل من داخل السنيما واخذ يبحت عنها شارعا شارعا، كان وحيداً في مدينة خلت من الناس والروائح، وحيداً في شوارع بإمتداد الأيام المحزنة، وحيداً في عالم واسع سعة الثقوب في القلوب
( عاد إلى المأوى بعد رحلة بحث غير موفقة، كان خائفاً إذا سأله أحد: أين أختك؟ وجدها مستقلية وتتنفس بإنتظام، عندما أحس بشئ من الرضا، أخذ خرقة ثم رتقها بأقمشة من الألوان، ألقاها على جسدها النحيل، واستقلى قربها متنفساً الصعداء
في الصباح الباكر أيقظته لكمة مميزة، نظر إليها، كانت تعابير وجهها تقول أن شيئاً لم يحدث البارحة، عاد بنظراته المكسورة ينثرها على ما رسمه تبوله الليلي من خرائط لعوالم مجهولة). ص 48، 49
رحيل:
هي اقل قصص المجموعة القصصية من حيث الكلمات ولكنها في رأي أكثر قصص المجموعة قتامة وحزناً فعندما قرر الراوي ( أن ينبذ اليأس الذي عشعش في داخله عناكب في غرفة مهجورة، وأن يدفن حزنه حياً بين طيات جروحه، رمى بكل آلامه في غياهب الذاكرة). ص 55
خرج الراوي للشارع محاولاً أن يخرج من يم ذكرياته التعيسة، معلقاً في شفتيه ابتسامة تعبر عن فرح انتصاره على ذكرياته ( ناسياً وفاة زوجته الشابة، وغرق إبنه الذي لم يتعدى العام في بالوعة المنزل نتيجه إهماله، فُصل من العمل لإصابته بحالة نفسية عصبية ). ص 55
حينما جلس في المقعد مواجهاً الركاب كان يتأملهم باحثاً في وجههم عن الأمل وكان سعيداً لأنه يختلف عنهم في احساسه بالفرح، إلى ان جاءت تلك المرأة التي تصفها استيلا قايتانو بأنه ( إمرأة أبنوسية اللون زنجية التقاطيع، وإستوائيه الملامح، ذات شلوخ في شكل نجمة كثيرة التفرعات تزيّن خدودها الذابلة تحمل رضيعاً لا يقل عنها نحولاً وهزالاً ). ص 55
ولأن الراوي كان يريد ان يوزع سعادته على الجميع فقد نهض من مقعده وأسنده المرأة حتى تمكنت من الجلوس مكانه. نظر إليها بعد قليل احس بحزنها فقرر أن يواسيها وخمن ان طفلها مريض وهي في طريقها للمستشفى لكنها لا تملك النقود الكافية لعلاجه ( في تلك اللحظة تحسس جيبه ليطمئن على نقوده، قال بينه وبين نفسه: سوف أكون معها حتى تعالج الطفل، وسوف يتغذى جيداً، وسوف تعود صحته وعافيته.. ). ص 56
توقفت العربة لإنزال احد الركاب، وجاء بائع متجول يعرض انواع من الحلوى منادياً بها، فأخرج الرواي ورقة مالية واشترى مجموعة من الحلوى مختلفة الألوان. وعندما تحركت العربة من جديد ( ومروحة سعادته تزداد إضطراباً، قدم لها الحلوى وهو يخاطبها ذات ركاكة مفعة بالرجاء: خذي هذا من أجل الطفل كان مبتسماً إبتسامة مضطربة خوفاً من الرفض. قالت بلغة أكثر ركاكة: جنادي موتو كلاص .. ( لقد توفي هذا الطفل )، رشحت طفلها بنظرات تحمل كل الأسى، ثم دموع ساخنة تنهمر نحو الجثة الصغيرة كأنها تريد اغتساله ..) ص 56
غامت الدنيا في عيني الراوي ورأى الدنيا بمنظارٍ غاية في السواد فترك العربة ونزل وساقته قدماه إلى شاطئ النيل، ولنصغي لاستيلا وهي تصور لنا ما يعتلج في دواخل الراوي ( .. وقف يحدق في الماء أمواج تولد فجأة وتموت منتحره تحت قدميه، صور لطيور رسمت على صفحة النيل فاردة اجنحتها مرفرفة معلنة بالرحيل، أسماك تضرب أحشاء النيل بزعانفها سابحة نحو الرحيل، شمس منحنية في الأفق تجمع أشعتها عن وجه الدنيا إرهاصاً بإنتهاء يوم لتحبل بيوم جديد. إجتاحه حزن ذا جذور ضربت في أعماقه لهذا اليوم الراحل، شعر أن أصابعه قد إلتحقت ببعضها البعض، فتح كفه فإذا بالحلوى ما زالت هناك، كان مطبقاً عليها بقوة عجيبة، حتى عرقت كفه وذابت ألوانها واختلطت أصفر في أحمر، أخضر في أزرق، أحمر في أخضر، أقامت الحلوى مأتماً بدموعها الملونة على كفه، قال من خلال ابتسامة ساخرة يائسه تحتضر في جانب ثغره: هذه أيضاً حلوى لطفل رحل ). ص 57
- أواصل بإذن الله -
نشرت بموقع الحوار المتمدن - العدد ( 4439 ) بتاريخ 30 أبريل 2014م على الرابط التالي:-
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=412761
Comments