القصة عند استيلا قايتانو .. - زهور ذابلة - نموذجاً ( 1 – 5 )

" ولكنك ترى ..
كل ما يحدث في شارع حيك العشوائي أو بتسمية أكثر لباقة "معسكر النازحين"
ترى الأطفال عراة وحفاة وهم يتمرغون في القذارة
يقضون وقفتهم في اللعب ومطاردة الكلاب في فوضى
الأمهات والآباء يتجهون حثيثاً نحو الموت
والسجون والجنون ..
ترصد هذه الحلقات كل يوم من موقعك هذا
حلقات كثيرة من الناس
أكثر من بقية الحلقات
رقص لأن أحدهم تزوج
رقص لأن أحدهم تمت ترقيته
ورقص لأن إحداهما انجبت طفلاً
ورقص لأن أحدهم مات ".


من هي استيلا؟:

ولدت استيلا قايتانو بمدينة الخرطوم بحري، المدينة الثالثة في السودان وهي العاصمة الصناعية والتي تشكل مع امدرمان ( العاصمة الوطنية) والخرطوم ( العاصمة الإدارية) تشكل هذه المدن الثلاث ما يسمى بالعاصمة القومية (الخرطوم) وهي العاصمة الثانية لجمهورية السودان منذ الاستعمار الثنائي وحتى الآن، بعد ان كانت مدينة واد مدني العاصمة الأولى للسودان إبان الحكم التركي.

تخرجت استيلا من جامعة الخرطوم كلية الصيدلة وفي عمر مبكر ظهرت مواهبها الكتابية – إن جاز التعبير – فأسهمت في مجال القصة كما اسهمت فيما بعد في مجال تخصصها العلمي، متزوجة من السيد/ عادل عطية ولها طفلين: عمر وعاصم.

تركت استيلا مع زوجها الخرطوم مجبرة لينتقلا للعيش بمدينة (جوبا) عاصمة جمهورية جنوب السودان بعد أن جرى الانفصال السياسي بتاريخ 9 يوليو 2011م وعلى اثره انقسم السودان لدولتين ولكن ظل قلبها معلق بالسودان الأم فتأتيه بين الفينة والأخرى حاملةً جوازاً اجنبياً وقلباً لا زال يحلم بالوحدة من جديد وبخارطه وطن يعود تاريخه لليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر للعام 1955م حيث تم إعلان استقلاله من تحت قبة البرلمان بشارع الجمهورية بمدينة الخرطوم.


زهور ذابلة:

صدرت المجموعة القصصية (زهور ذابلة) عن دار عزة للنشر والتوزيع بشارع الجامعة بمدينة الخرطوم وذلك في العام 2004م. وتحوي ثمانية قصص قصيرة أولها ( نحو الموت والسجون) والتي كتبتها في العام 2002م وأخذت بعض فقراتها لتكون على الغلاف الخلفي للكتاب. وآخرها ( بحيرة بحجم ثمرة الباباي ) التي نشرت قبل عقدٍ ونيف بجريدة ( الرأي الآخر ) قبل ان توقفها.

لوحة الغلاف الأمامي بريشة الفنان عصام عبد الحفيظ ، بينما انفردت ريشة الفنان حسان علي أحمد بالرسومات الداخلية للكتاب.


نحو الموت والسجون:

هو العنوان الثاني للقصة الأولى بالمجموعة القصصية ويحمل عنوان ( كل شئ هنا يغلي ) تبدأ القصة بأربعة أسطر ربما تلخص عالم هذه القصة وبيئتها:

( المكان: حي شعبي أو بالأدق عشوائي
الموقع: بعيد عن العاصمة بعد الصالحين عن الجحيم
الزمن: زمن النزوح .. زمن الحرب .. الحرب الذي ضدك أو ضدك
السكان: غُبش
الرائحة: البراز و الخمر ).

يطلق أهل السودان مصطلح ( غُبش ) بضم حرفي الغين والباء على الكادحين من البشر، والفقرة الثانية في ذات الصفحة التاسعة تضيف تعريفاً آخر بالمكان ( الشوارع مثل ثعابين قصيرة تنتهي بطرق مسدودة دائماً، أهلها أدرى بشعابها، إذا كنت تتجول في هذه الشوارع لأول مرة، وأن تنساب بآلية في طريق طويل فيه كل مقومات الشارع قد تنتهي بك بغرفة نوم، أحدهم ).

أما بطل القصة فتخاطبه استيلا ( انت تعيش هنا بعد أن فقدت كل شئ هناك، وتحلم بالعودة قريباً لذا تفعل كل اشياءك بصورة مؤقتة، من أجل هذا فأنت تصارع كل يوم من أجل المأكل والمشرب. والملبس لا يهمك أمره كثيراً، حتى صُرعت أخيراً، صُرعت وأنت تعول أسرة، أنت الآن راقد وواع تماماً بعجزك، ترقد والسل يدب في أحشائك دبيب السوس في العود، تحولت كلماتك إلى سعال وصديد، وعظامك البارزة مواسير تنساب فيها الحمى، هناك أيضاً تقرحات على ظهرك من كثرة الاستلقاء، هذا بيني وبينك لأن لا أحد يعلم عنها شئ حتى الآن، لا شئ تفعله سوى النظر، النظر فيما حولك، صرت عيناً .. ترصد كل الأشياء حتى الأصوات، الآن أنت متكوم في غرفتك الخاصة .. الغرفة الوحيدة التي تخصك وتخص أفراد أسرتك: زوجتك وتؤاميك). ص 9

وتزداد جرعة الأسى بهذه الفقرة: ( يصلك كل ما في الشارع من أحداث لأنك تقريباً تسكن في الشارع، الآن يصلك صوت تبول أحد السكارى على جدار غرفتك، وتقيوء ذاك أمام بابك وتدحرج ذاك مقاوماً للدوار، ترى النسوة في نشاطهن اليومي ينقلن الخمور من مكان لآخر متنافسات على الخامة الجيدة ونظافة مجلس الزبائن فالشعار المرفوع هنا " بيتك للكل، لأن الكل في بيتك، لأن بيتك في الشارع والشارع من تراب" ). ص 10

أما الزوجة ولعلها البطلة الحقيقة للقصة فهي مثل الأخريات تمتهن بيع الخمر لتعول اسرتها النووية ( ... فزوجتك الآن تعمل بنشاط نمل، لا تعلم متى تنام فأنت ترصد استيقاظها ليلاً ونهاراً، ليلاً تسهر معك لتخفف عنك الألم والحمى، في ذات الوقت تصنع الخمر ). صفحتي 10، 11

أما نهاراً فهي ( تنساب بين الزبائن ملبية طلباتهم، وتوفر أدوات الشواء لهم، لقد أعتدت على هذه الفوضى حتى صارت جزء منك، كل هذا الضجيج يتم حول رأسك ). ص 11

ورغم أن زوجته تعمل ليلاً ونهاراً حتى تسير دفة الحياة، فإن زوجها يحار في ( ابتسامتها المفرطة رغم نزيفها الداخلي لأن السكارى سيظنون أن أخلاقها ضيقة فإنهم لا يحبذون ذوات الأخلاق الضيقة، ها هي قادمة نحوك نحيفة تتلاعب داخل ثوبها مثل ملعقة داخل كوب، تستطيع بكل يسر أن تتابع عروقها وتفرعاتها من المنبع إلى المصب والعكس، ترفع الوسادة التي تحت رأسك واضعة النقود تفعل هذا الشيء في كل دقيقة تقريباً تجري حساباتها وتضعها دون اعتبار لأي رأس ملقى هناك كأنك والوسادة شئ واحد، ولعلك تختلف قليلاً لأنك تسعل فالوسادات لا تسعل، عندما تفعل ذلك يكاد رأسك ينفجر من الألم يتبعها سعالك فتنتبه لوجودك وتسندك بيد وتمسك العلبة التي تحوي بعض التراب لتبصق فيها لعابك الصديدي المريض باليد الأخرى ). ص 11

وبينما كانت الزوجة تدفع بطفليها بعيداً عن مجتمع الزبائن حتى انها اضطرت لضربهم ضرباً مبرحاً ( عندما دلفا وتلقفهما السكارى وصاروا يتحدثون معهم، وكل واحد منهم يحس بمسؤلية تجاههما فيحشر اللحم في أفواههما ويدس بعض العملات في ايديهما لشراء الحلوى، كانت الأم ترمقهما بنظرة تأديبية حارقة حتى لا يأخذنا النقود ). ص 12

وزوجها يسمعها ( وهي تقول لجارتها بأنها ادخرت النقود الكافية لتأخذك غداً إلى المستشفى، لأنه إذا مت فإنها لن تغفر لنفسها أبداً، فتتكور أنت ألماً ). ص 12

لكن الأحداث دوماً لا تسير على ما يرام ( تعلم جيداً هذه الفوضى التي تسود المكان، السكارى هاربون، النسوة مهرولات يخبئن الخمور وأخريات يغلقن أبواب غرفهن في زعر فالفرار .. الفرار .. الفرار. وتصلك تلك الأصوات الطفولية هاتفه: الكشة .. الكشة .. الكشة. تماماً هي نفس النغمة عندما يهتفون: الإغاثة .. الإغاثة .. الإغاثة. هم كذلك لا يفرقون بين المصيبة والمصيبة ). صفحتي 12، 13

والكشة " يفتح حرف الكاف وتشديد حرف الشين " هو مصطلح يطلقه السودانيون على قوات الشرطة التي تداهم .. حسن لنصغي لتعريف الكاتبة استيلا لهم: ( .. يلي هذا الهتاف اقتحام تلك الكتاءب المسلحة لحفظ النظام ومحاربة الرذيلة والحرام وللترويض أيضاً، يتفرقون في كل البيوت ويسكبون السوائل على الأرض حتى الماء الذي تم الحصول عليه بعد شقاء مرير، ويدحرجون الببراميل على الأرض، يقبضون على ذلك وتلك، ويضربون آخر وفي أقل من القليل تمتلئ عرباتهم بالسكارى والنسوة والأواني وتتحرك إلى حيث أتت، ركض الأطفال خلف الشاحنات باكين منادين على أمهاتهم، أباءهم ويضيع بكائهم وسط شخير عربات البوليس، ويتلاشى صراخهم وسط الغبار والعادم، كان طفلاك معهم لأن زوجتك لم تنجو هذه المرة ). ص 13

بعد رحيل عربة الكشة، عاد الأطفال لللعب متناسين ما حدث، هنا عادوا لمطاردة الكلاب والتبرز في العراء والعلب الفارغة محافظين على طفولتهم التي في احضان اللامعقول ). ص 14

أما بيت الزوج فكان ( صورة مصغرة للحيّ كله، بذل الصغيران جهدهما لوضع الأمور في نصابها أنت متكور عبارة عن قطعة من الألم، تحس بتهتكات في صدرك، والحمى تسري في عظامك أكثر ما يؤلمك أنك تحولت إلى عين، عينك ستة على ستة تنظر فقط لا غير، ترى طفلتك التي تحسب بأنها في هذه الأثناء يجب أن تحل محل الأم فصارت حازمة، وزامة شفتيها فتبدو أكبر من سنينها القليلة بعشرات المرات، طفلك لا يفارق الضحك شفتيه فهو مصر على إظهار تلك الفراغات في لثته ). ص 14

وإذا بالضجيج يعود مرة أخرى ( ولكنه يختلف وصاح الأطفال: الإغاثة .. الإغاثة .. الإغاثة .. كل من في الحيّ يحمل صفيحاً وأكياساً فارغة وعلباً لتلقي الإغاثة، فعل طفلاك مثلما فعلوا، وأمتدت الصفوف، كباراً وصغاراً ونساء ورجالاً وكثرت الشجارات وبكاء الأطفال طمعاً في حفنة دقيق أو قطرة زيت، الشمس تشرق وتغيب على الرؤوس، يوم واحد لا يكفي، وتنظر أنت .. انت العين تنظر إلى تلك الجوالات وعلب الزيت وقد كتب فيها بالخط العريض باللون الأزرق U.S. A. علب الزيت. U.S. A. لبن البدرة. U.S. A. جوالات الدقيق. U.S. A. وتفوّه لعابك الصديدي .. ولكن ليس في العلبة هذه المرة، بل على وسادتك .. لأن الأطفال كانوا هناك في الصفوف الأخيرة ). ص 14

ثم إن الضجيج علا مرة ثالثة بعد أيام وهتف الأطفال: الكشة .. الكشة ، ولم تكن كذلك. فهتفوا: الأغاثة .. الأغاثة. ولم تكن بإغاثة ولكنها الجرارات التي علت في الأفق من على البعد. ( .. وانت .. العين .. كنت تعلم ولكن لا تستطيع الهتاف، اقتربت تلك المعاول التي تسير على أربع، أكثر، تم هدم كل تلك البيوت التي كانت قائمة على الشوارع الرئيسية كما قالوا ومناطق الخدمات ومجرى السيل، وبهذه الأسباب أصبحت البيوت الواقفة هنا وهناك مثل أسنان في فم عجوز، حتى عرفتك الوحيدة ذابت تحت وطأة الجرارات ). ص 15

وتزداد الحمى على الزوج والطبيعة من حوله ثائرةً جداً ( كانت هناك عاصفة ترابية تتجمع في الأفق ومن خلفها سحب داكنة تصنع كائنات عملاقة ولكنها سرعان ما تغير شكلها قبل أن تحدد ماهية الأشكال، ساد اضطراب فيما حولك، الكل يبحث عن ما يأويه من ثورة الطبيعة تلك، حيث لا مأوى، غطت الأمهات أطفالهن بالمشمعات والملاءات مع تجمع كل أفراد الأسرة في مكان واحد ليقي كل الآخر بجسده ). ص 15

تختتم القاصة استيلا قايتانو تلك المشاهد التراجيدية بأقصوصتها ( نحو الموت والسجون ) بفقرتين أخيرتين بالصفحة السادسة عشر من الكتاب. استميح القراء الاعزاء بأن انقلهما دون حذف أو إضافة من عندي:

( سعلت كثيراً اثناء العاصفة الترابية حتى كدت تفقد وعيك لولا تلك القطرات المائية التي لامست وجهك، حضر صغيراك وتلفتا يمني ويسرى .. انت من تهمهم في هذه الأثناء، بحثا عن مشمع لتغطيتك، أمسكت هي الطرفين الأماميين وأمسك هو بالطرفين الخلفيين، وصنعاً لك سقف ليقيك من المطر، انحدرت منك دمعة تغلي، وأنت تراهما تحت المطر، يصارعان الرياح التي أخذت تعصف بهما وأحياناً تنزع من أيديهما السقف ويهرولان لجلبة بسرعة قبل أن تبتل أنت، هو يضحك مظهراً فراغات لثته وهي زامة شفتيها لتبدو أكبر في انتظار شئ ما، ويعودان لك مرة أخرى، كنت تراهما من تحت المشمع وهما يحاولان جاهدين بألا تلمسك قطرة، التمعت تلك القطرات التي كانت عالقة بنهايات أذنيهما مثل البلور فلاح لك أمل هناك .. أمل بعيد .. بعيد جداً.

( توقفت الأمطار، هما الآن يخلعان أثوابهما الرطبة ويندسان تحت فراشك من البرد والرطوبة، كنت مصدر دفء لهما، عظامك الساخنة تغلي، وصدرك يغلي بالسعال، نام ذاك وهو يحلم بعودة الأم واللعب في ماء المطر واصطياد الأسماك الضالة التي انجرفت مع الماء من الترعة القريبة، وترى تلك وعيناها مثبتة في الأفق كأنها في انتظار شئ ما، أما انت فكنت تتسلل من الحياة شيئاً فشيئاً حتى لا ينتبها لغيابك ).



-أواصل بإذن الله -
نشرت بالحوار المتمدن - العدد ( 4407 ) بتاريخ 28 مارس 2014م:-
 
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=407717

Comments

Popular Posts