القصة عند استيلا قايتانو .. - زهور ذابلة - نموذجاً ( 2 – 5 )
في الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات، دفعت بنبذة
مقتضبة عن الكاتبة استيلا قايتانو. ومن ثم استعرضت قصتها الأولى بمجموعتها (
زهور ذابلة ). أواصل في الحلقة الثانية، الحديث عن قصص هذه المجموعة.
نحو الجنون:
يمثل هذا العنوان، الجزئية الثانية والأخيرة من ( كل شيء هنا يغلي )، حيث عنونت القصة الأولى بعنوان آخر وهو: ( نحو الموت والسجون )، لتصبح القصة الثانية: ( كل شئ هنا يغلي "2" : نحو الجنون ).
تبتدر استيلا قصتها بهذه الفقرة: ( ما زال صرير بوابة السجن الكبير يزن في اذنيها عندما لفظها السجن من جحيمه إلى حجيم المدينة، اختلط الصرير بشخير البص القديم الذي يئن تحت وطأة السنين والشوارع الخربة ). (ص 21)
إذن البطلة أخيراً خارج أسوار السجن الكبير أو ( حوش البقر ) كما تسميه القاصة على لسان الرواي. وطوال مسيرة البص، كانت ذكريات السجن تترى في مخيلة البطلة. قبل أن تنتشلها من يم ذكرياتها، فرقعة أصابع الكسماري يطلب ثمن التذكرة. ولأنها كانت لا تملك أي نقود بحوذتها، فقد أشار الكسماري لسائق البص بالتوقف قبل أن يأمرها بالترجل. مما حدا بها إلى ان تخبر كسماري البص الآخر بأنها لا تملك نقوداً فوافق أن يقلها وارتقت البص الآخر على اثر هذه الموافقة.
وصلت بطلة القصة للمحطة الأخيرة وركبت مع غيرها من المواطنين في إحدى ( الكاروهات ) التي تجرها الحمير بعد أن استأذنت الصبي الذي يقود ( الكارو ) فوافق فوراً على أن يقلها دون نقود.
بعد كل تلك الأشهر التي قضتها في السجن لاحظت الفرق فقد اختفت الشوارع الثعبانية. واختفت معها كذلك عدداً من البيوت لتصبح أماكنها خالية جرداء. وهنالك بئر ارتوازية حلت محل الطاحونة المائية. سألت عن السبب فأخبروها بأنه التخطيط.
فكرت في اسرتها وشرعت بالعدو كي تدركهم وصدق حدسها، فهنالك زريبة لتجار يبيعون البلح والحطب ولاخميرة مكان غرفتها!. ابصرتها احدى جارتها فهرولت إليها معانقة وباكية ومعزية في زوجها. ( دمدمت مثل السماء وبرقت عينيها، صرخت صراخاً لم الحي كله وايقظه من سكرته وغيابه، وبكت وولولت بكل اللغات التي تعرفها .. ناحت وأنت كل خلية فيها، طفرت دموع جرفت حزن العالم كله وغضب الدم وغبن القلب ). ( ص 24 )
ولم تتوقف بطلة القصة عن تعابيرها الحزينة وسط الجموع التي تحلقت حولها ( هي تقف في الوسط ترتجف من الفجية، بكت معها النسوة في حرقة، ثم أخذت تسب وتلعن .. سبت الشماليين، وسبت الجنوبيين، ثم كوّرت كفها وامسكت معصمها في حركة بذيئة، وسبت مؤخرة أم الحرب .. وسقطت مغشياً عليها ). ( ص 24 )
بعد أن افاقت من غيبوبتها، سألت عن قبر زوجها والتوأمين. ولأنها لم تجد أي إجابة من الجيران فقد شرعت في رحلة البحث الطويل عن تؤام وقبر حتى انتهى بها الأمر إلى أنها ( كانت تحرك شفتيها لأن منلوجها الداخلي بدأ يغلي ويخرج بخاراً .. كانت تسأل وتلعن وترحل من الأقاصي إلى الأقاصي ). ( ص 26 )
وكانت النتيجة الحتمية: ( ... وعندما خرج لها طفلاها ذات يوم من بركة التشرد، تصادفوا، انكمشا منها وهربت هي منهما، وكانت تعض على أصابعها ولعابها يسيل في غزارة دموعها .. هربت وهي تعرج فأصبحت مشيتها قردية وتغطيها بعض الخرق، ركض خلفها ولكنها هربت تبكي حيناً وتضحك حيناً، يئسا وعادا متدحرجين إلى بركتهما وغابا كما غابت هي في طريق البحث وضاعت، ولكن في غيابها كانت دوماً تلعن وترحل وتسأل عن قبر وبيت وطفلين يتيمين ). (ص 26 ).
وليمة ما قبل المطر:
تشير القصة إلى أن ( " أولير " اسمه يعني العراء، ذلك لأن أمه انجبته هناك عندما داهما المخاض وهي تحتطب، بلدته محاطة بالغابة والسماء ). ( ص 31 )
وتواصل استيلا قايتانو في قصتها الثالثة ( وليمة ما قبل المطر ) سردها الساحر: أولير ( كان يغط في نوم عميق عندما بدأ ذلك الظل يزحف بطيئاً نحو بلدته فبدأت مثل انسان ضحم يسحب غطاء نحو جسده ). ( ص 31 ) وكان الأجواء الخريفية تطل من سطور القصة فالشمس متوارية خلف الغيوم الداكنة والاشجار الضخمة تتمايل اغصانها بفعل رياح خفيفة ( تلوح لكرنفال الطبيعة المفاجئة .. بدأت النسوة نصف العاريات في التحرك مثل سرب النحل، يشرعن في نقل ما نشرنه من بافرا وذرة نابت إلى داخل الأكواخ، كن يتصايحن راطنات، تنبه كل الاخرى او تمازحها، واخريات مهرولات وعلى رؤوسهن قدور الماء والصغيرات. كان الماء ينحدر على صدورهن النابتة فيضفي لوناً اسود مصقول على بشرتهن). ( ص 31 ).
أما الرجال فقد كانوا جلوساً ( تحت سقيفة ضخمة تجاور ساحة الرقص، يتوسطهم مدفاة من الأخشاب الجافة لاشعالها عند هطول الامطار في صخب من الضحك والغناء، غناء اطلقته اخواتهم أو حبيباتهم، واصفاتهم بالشجاعة والقوة ويتخلل الأغنية بعض الغزل، كان المقصود بالوصف يهب واقفاً ضارباً أرجله بالأرض ملوحاً برمحه في الفضاء كأنه يقاتل عدواً لا يراه أحد سواه ). ( ص 31 ).
وماذا عن الاطفال ( عالم آخر طفولي، تشده شجرة " عرديب " ضخمة مغرية أياه بالثمار الرطبة التي تساقطت بفعل الرياح، بعضهم كان باسطاً ذراعيه مثل طائر منشدين أغنية المطر: " ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي .. ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي" أيتها الغيوم صُبيّ .. إذا كنت رزازاً فلا تأتي .. فلا تأتي ). ( ص 31 )
في هذا الأجواء ( ركض صديقا " أولير " طفلين في السادسة من العمر، يشدك ذاك البريق الذي في عينيهما شداً، اتجها نحو خالتهما لتوقظه لهم حتى لا تفوته وليمة ما قبل المطر، رفضت في حنو قائلة: " ليس من اللائق إيقاظ النائم، لانه بحاجة إلى ذلك وإلا لم ينم!" اظهر بعض الرضا عائدين إلى الشجرة ). ( ص 32 ).
ثم إن المطر قد هطل غزيراً. وجعلت أم " أولير " تحمل بعض الأخشاب الجافة إلى الداخل للتدفئة. ( وذلك الكائن خلف السحب يصدر أصوات مكتومة مصاحبة لبرق قوي ). ( ص 32 )
وتواصل الطبيعة ما بدأته في تلك البقعة من الأرض في ذلك الزمان ( فجأةً انفجار هائل، ثم برق طويل يخطف البصر، كأن هناك من أمسك بتلابيب السماء ومزقها إلى شطرين، تلجمت القرية وهي تسمع إلى ذلك الطنين الذي ينزلق في دهاليز آذانهم، والكل على يقين بأن هذه الصاعقة قد وصلت الأرض لا محالة ). ( صفحتي 32 و33 )
في الصباح كانت المفاجأة المحزنة - أو البشعة إن شئت – فقد اصبحت القرية على ولوة النسوة اللاتي تتراقص اكواخهن بجوار شجرة العرديب الضخمة، عفواً كانت حتى البارحة ضخمة قبل أن تشطرها الصاعقة إلى نصفين ( صرخت إحداهن منبةً القوم على أن هناك طفلين تعرضا لضربة الصاعقة، تبعثر الجمع للبحث عن الجثتين لابد ان الصاعقة قد القتهما بعيداً عثروا عليهما، التفوا حولهما ينظرون في رعب إلى الشريط الاسود الذي يمتد من رأسيهما إلى ما بين فخذيهما، شريطاً يوضح ذلك الاحتراق المفاجئ كأنهما انشطرا وتم لحامهما مرة أخرى، ثم ثمار متفحمة التصقت على كفيهما الصغيرتين ). ( ص 33 ).
كانت الجثتان الصغيرتين تنتميا لصديقيّ " أولير " .. ( تفلت جدة أولير لعاباً داكناً بفعل التمباك على رأس حفيدها المحبوب قائلة: اشكر من جعلك تنام في هذا الوقت بالذات فقد انقذك النوم من موت محقق، ويعلم الله إذا مت لكنت لاحقة بك لا محالة لذا ستنام كلما بدأت الأمطار في الهطول مدى حياتك ). ( ص 34 ).
حاول الاهل والجيران اخفاء الأمر عن أولير ولكن الطفل رأى ما حدث لرفيقيه فأرتمى في حجر جدته باكياً ( مرتعد الأوصال وذاك الشريط الاسود يتقافز أمام عينه، هذا يعني الموت! موت صديقيه يعني انهما لن يلعبا معه لعبة الاستخباء، الموت يعني انهما لن يزجرا الطير من المزارع وهم يعلمون الببغاوات الشتائم المصاحبة لاسماء اصحاب مزارع الفاكهة البخلاء الذين لا يسمحون لهم بأكلها، ويغرقون في الضحك عندما يسمعون صاحب الاسم يتبادل الشتائم مع الببغاوات مرشقاً إياها بالحجارة ). (ص 34 )
أما " أولير " فبرغم موت جدته وبرغم انه صار شاباً قوياً ( يرقص بكل طاقته فينال بذلك اعجاب الفتيات اللاتي تتدافعن ليراقصهن. يجيد السباحة كأنه من سكان النهر، يتسلق الاشجار مثل قرد، الكل يستقبله باستحسان لسماحته مع الكل، كان عيبه الوحيد النوم عند هطول المطر ). ( ص 35 )
وسبب نوم " أولير " هي لعنة جدته التي دعت عليه بأن ينام كلما هطل المطر. ( أحياناً كان يأتي محمولاً على كتف أصدقائه عندما ينام في رحلة صيد أو أي مكان آخر. كانت امه تراقبه وتوصيه بأنه إذا احس بقرب المطر يجب ان يعود إلى البيت، ولكنه كثيراً ما يندمج مع اصدقائه ينسى حتى تداهمه الأمطار وسرعان ما ينام لتعود به الذاكرة اللعينة إلى عمر السادسة ). ( ص 35 )
ولكن قلب الأم لا يهنأ حتى ترتاح على مصير صغيرها ( أولير الشاب ) فالتجأت إلى عرافة بالجوار علها تذهب عن ابنها اللعنة. ولأن ( سمح الغنا في خشم سيده ) - على حد تعبير مقولتنا السودانية – أي ان الحديث لا يحلو إلا من فم صاحبه. فلتقرأ ما كتبت استيلا على لسان الراوي، واصفةً أجواء العرافة حينما التقت أولير وأمه ( كانت العرافة معطية ظهرها لهم وجسمها ملئ بالأحجية والتمائم، أحس " أولير " بالتقيؤ عندما اخترقت تلك الروائح الغريبة انفه، واضطرب عندما لمح ثعبان كبير يقبع في قرعة كبيرة، وقرعة أخرى ملئ بالدماء وطائر غريب يصدر أصواتاً آدمية، نطقت العرافة بإسمه كأنها تعرفه عن كثب وسألته بما يحس به أثناء هطول المطر حكى لها كل شئ، بعد ذلك اصدرت بعض الأصوات المخيفة والأبخرة تتصاعد نحو السقف المخروطي، اعطت الأوامر للطائر الغريب الذي طار خارجاً ثم عاد بعد قليل ليخبرها بأن الجدة هي التي لعنت حفيدها خوفاً عليه، طلبت العرافة معزة سوداء وبقرة حلوب، على أن يتم العلاج غداً صباحاً قبل شروق الشمس ). ( ص 36 )
اراد اصدقاء " أولير " الاحتفاء بدنو خلاص صديقهم من اللعنة، بعد ان سمعوا منه ما دار بينه وبين العرافة وكانوا في طريقهم إلى رحلة صيد حاملين ادواته. تاركين نسوة القرية منهمكات في صنع الطعام و( المريسة ) – والمريسة هو نوع من الخمور البلدية التي تصنع في السودان من الذرة النابت ولعلها تصنع في بعض دول الجوار كذلك – وكان الاجواء احتفالية في تلك القرية التي تحيطها الخضرة.
في الغابة أوغل الاصدقاء في سيرهم مرددين أغانٍ زنجية تتحدث عن القوة والشجاعة وفي هذه الاثناء تبلدت السماء بالسحب فارتبك " أولير " وأراد الرجوع فعلم اصدقاؤه السبب فنصحوه بمرافقتهم لأن طريق العودة للقرية طويل جداً واقنعوه بأن يظل بصحبته فإن هطلت الامطار ونام فسيحملوه في طريق العودة للقرية ( .. عموماً فهو آخر يوم لهذه اللعنة فدعنا نستمتع ونحن نرفعك على اكتافنا للمرة الأخيرة، فلن نحملك بعد اليوم ). ( ص 37 )
اثناء سيره في الغابة اعترضهم نهر سريع الجريان فسألهم " أولير " عن اجادتهم للسباحة فأنقسم الاصدقاء إلى فرقتين، فرقة قادرة على السباحة بامتياز وأخرى لا تجيد السباحة. فإنبرى " أولير " لإنقاذ كل من لا يجيد السباحة حتى يجتاز النهر ولما تمكن الجميع من العبور للضفة الأخرى عاد " أولير " مرة أخرى للنهر فلابد من ان يحضر الاقواس والرماح من ضفته الأخرى ولكن المطر بدأت قطراته تغازل جسد النهر و " أولير " يشق الماء بكل قوته. غير ان المطر اشتد هطوله واشتد الأمر على " أولير " .. ( بدأت اطرافه تسترخي وهو يصارع أقوى أثنين، مياه نهر هائج ولعنة الجدة). ( ص 37 )
وكانت النهاية الحتمية لبطلنا أولير ( .. عندما ابتلعته الأمواج والنهر مثل حيوان ضخم يتقلب في مرقده مبتلعاً كل شئ حتى جذوع الاشجار، و" أولير " في احضان الطبيعة يتحول إلى طفل في السادسة يتنهد في حجر جدته ذات الرائحة النفاذة وهو يراقب قملة تزحف متكاسلة ثم تندس بين طيات تنورتها، وذلك اللعاب الداكن يثقل فروة رأسه، فأس يهوي من السماء شاطراً شجرة إلى نصفين ثم نزيف دخاني وسائل أخضر، جثث تتدرج وقبر متشقق.
( تركوه هناك نائماً نومته الأبدية، غارقاً في لعنة جدته، والنهر يأخذه بعيداً عن انشودة المطر، بعيداً عن القرية المحاطة بالغابة والسماء، بعيداً عن البافرا وورق الموز). ( ص 38)
-أواصل بإذن الله -
الحوار المتمدن - العدد ( 4412 ) بتاريخ 2 إبريل 2014م بالرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=408480
نحو الجنون:
يمثل هذا العنوان، الجزئية الثانية والأخيرة من ( كل شيء هنا يغلي )، حيث عنونت القصة الأولى بعنوان آخر وهو: ( نحو الموت والسجون )، لتصبح القصة الثانية: ( كل شئ هنا يغلي "2" : نحو الجنون ).
تبتدر استيلا قصتها بهذه الفقرة: ( ما زال صرير بوابة السجن الكبير يزن في اذنيها عندما لفظها السجن من جحيمه إلى حجيم المدينة، اختلط الصرير بشخير البص القديم الذي يئن تحت وطأة السنين والشوارع الخربة ). (ص 21)
إذن البطلة أخيراً خارج أسوار السجن الكبير أو ( حوش البقر ) كما تسميه القاصة على لسان الرواي. وطوال مسيرة البص، كانت ذكريات السجن تترى في مخيلة البطلة. قبل أن تنتشلها من يم ذكرياتها، فرقعة أصابع الكسماري يطلب ثمن التذكرة. ولأنها كانت لا تملك أي نقود بحوذتها، فقد أشار الكسماري لسائق البص بالتوقف قبل أن يأمرها بالترجل. مما حدا بها إلى ان تخبر كسماري البص الآخر بأنها لا تملك نقوداً فوافق أن يقلها وارتقت البص الآخر على اثر هذه الموافقة.
وصلت بطلة القصة للمحطة الأخيرة وركبت مع غيرها من المواطنين في إحدى ( الكاروهات ) التي تجرها الحمير بعد أن استأذنت الصبي الذي يقود ( الكارو ) فوافق فوراً على أن يقلها دون نقود.
بعد كل تلك الأشهر التي قضتها في السجن لاحظت الفرق فقد اختفت الشوارع الثعبانية. واختفت معها كذلك عدداً من البيوت لتصبح أماكنها خالية جرداء. وهنالك بئر ارتوازية حلت محل الطاحونة المائية. سألت عن السبب فأخبروها بأنه التخطيط.
فكرت في اسرتها وشرعت بالعدو كي تدركهم وصدق حدسها، فهنالك زريبة لتجار يبيعون البلح والحطب ولاخميرة مكان غرفتها!. ابصرتها احدى جارتها فهرولت إليها معانقة وباكية ومعزية في زوجها. ( دمدمت مثل السماء وبرقت عينيها، صرخت صراخاً لم الحي كله وايقظه من سكرته وغيابه، وبكت وولولت بكل اللغات التي تعرفها .. ناحت وأنت كل خلية فيها، طفرت دموع جرفت حزن العالم كله وغضب الدم وغبن القلب ). ( ص 24 )
ولم تتوقف بطلة القصة عن تعابيرها الحزينة وسط الجموع التي تحلقت حولها ( هي تقف في الوسط ترتجف من الفجية، بكت معها النسوة في حرقة، ثم أخذت تسب وتلعن .. سبت الشماليين، وسبت الجنوبيين، ثم كوّرت كفها وامسكت معصمها في حركة بذيئة، وسبت مؤخرة أم الحرب .. وسقطت مغشياً عليها ). ( ص 24 )
بعد أن افاقت من غيبوبتها، سألت عن قبر زوجها والتوأمين. ولأنها لم تجد أي إجابة من الجيران فقد شرعت في رحلة البحث الطويل عن تؤام وقبر حتى انتهى بها الأمر إلى أنها ( كانت تحرك شفتيها لأن منلوجها الداخلي بدأ يغلي ويخرج بخاراً .. كانت تسأل وتلعن وترحل من الأقاصي إلى الأقاصي ). ( ص 26 )
وكانت النتيجة الحتمية: ( ... وعندما خرج لها طفلاها ذات يوم من بركة التشرد، تصادفوا، انكمشا منها وهربت هي منهما، وكانت تعض على أصابعها ولعابها يسيل في غزارة دموعها .. هربت وهي تعرج فأصبحت مشيتها قردية وتغطيها بعض الخرق، ركض خلفها ولكنها هربت تبكي حيناً وتضحك حيناً، يئسا وعادا متدحرجين إلى بركتهما وغابا كما غابت هي في طريق البحث وضاعت، ولكن في غيابها كانت دوماً تلعن وترحل وتسأل عن قبر وبيت وطفلين يتيمين ). (ص 26 ).
وليمة ما قبل المطر:
تشير القصة إلى أن ( " أولير " اسمه يعني العراء، ذلك لأن أمه انجبته هناك عندما داهما المخاض وهي تحتطب، بلدته محاطة بالغابة والسماء ). ( ص 31 )
وتواصل استيلا قايتانو في قصتها الثالثة ( وليمة ما قبل المطر ) سردها الساحر: أولير ( كان يغط في نوم عميق عندما بدأ ذلك الظل يزحف بطيئاً نحو بلدته فبدأت مثل انسان ضحم يسحب غطاء نحو جسده ). ( ص 31 ) وكان الأجواء الخريفية تطل من سطور القصة فالشمس متوارية خلف الغيوم الداكنة والاشجار الضخمة تتمايل اغصانها بفعل رياح خفيفة ( تلوح لكرنفال الطبيعة المفاجئة .. بدأت النسوة نصف العاريات في التحرك مثل سرب النحل، يشرعن في نقل ما نشرنه من بافرا وذرة نابت إلى داخل الأكواخ، كن يتصايحن راطنات، تنبه كل الاخرى او تمازحها، واخريات مهرولات وعلى رؤوسهن قدور الماء والصغيرات. كان الماء ينحدر على صدورهن النابتة فيضفي لوناً اسود مصقول على بشرتهن). ( ص 31 ).
أما الرجال فقد كانوا جلوساً ( تحت سقيفة ضخمة تجاور ساحة الرقص، يتوسطهم مدفاة من الأخشاب الجافة لاشعالها عند هطول الامطار في صخب من الضحك والغناء، غناء اطلقته اخواتهم أو حبيباتهم، واصفاتهم بالشجاعة والقوة ويتخلل الأغنية بعض الغزل، كان المقصود بالوصف يهب واقفاً ضارباً أرجله بالأرض ملوحاً برمحه في الفضاء كأنه يقاتل عدواً لا يراه أحد سواه ). ( ص 31 ).
وماذا عن الاطفال ( عالم آخر طفولي، تشده شجرة " عرديب " ضخمة مغرية أياه بالثمار الرطبة التي تساقطت بفعل الرياح، بعضهم كان باسطاً ذراعيه مثل طائر منشدين أغنية المطر: " ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي .. ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي" أيتها الغيوم صُبيّ .. إذا كنت رزازاً فلا تأتي .. فلا تأتي ). ( ص 31 )
في هذا الأجواء ( ركض صديقا " أولير " طفلين في السادسة من العمر، يشدك ذاك البريق الذي في عينيهما شداً، اتجها نحو خالتهما لتوقظه لهم حتى لا تفوته وليمة ما قبل المطر، رفضت في حنو قائلة: " ليس من اللائق إيقاظ النائم، لانه بحاجة إلى ذلك وإلا لم ينم!" اظهر بعض الرضا عائدين إلى الشجرة ). ( ص 32 ).
ثم إن المطر قد هطل غزيراً. وجعلت أم " أولير " تحمل بعض الأخشاب الجافة إلى الداخل للتدفئة. ( وذلك الكائن خلف السحب يصدر أصوات مكتومة مصاحبة لبرق قوي ). ( ص 32 )
وتواصل الطبيعة ما بدأته في تلك البقعة من الأرض في ذلك الزمان ( فجأةً انفجار هائل، ثم برق طويل يخطف البصر، كأن هناك من أمسك بتلابيب السماء ومزقها إلى شطرين، تلجمت القرية وهي تسمع إلى ذلك الطنين الذي ينزلق في دهاليز آذانهم، والكل على يقين بأن هذه الصاعقة قد وصلت الأرض لا محالة ). ( صفحتي 32 و33 )
في الصباح كانت المفاجأة المحزنة - أو البشعة إن شئت – فقد اصبحت القرية على ولوة النسوة اللاتي تتراقص اكواخهن بجوار شجرة العرديب الضخمة، عفواً كانت حتى البارحة ضخمة قبل أن تشطرها الصاعقة إلى نصفين ( صرخت إحداهن منبةً القوم على أن هناك طفلين تعرضا لضربة الصاعقة، تبعثر الجمع للبحث عن الجثتين لابد ان الصاعقة قد القتهما بعيداً عثروا عليهما، التفوا حولهما ينظرون في رعب إلى الشريط الاسود الذي يمتد من رأسيهما إلى ما بين فخذيهما، شريطاً يوضح ذلك الاحتراق المفاجئ كأنهما انشطرا وتم لحامهما مرة أخرى، ثم ثمار متفحمة التصقت على كفيهما الصغيرتين ). ( ص 33 ).
كانت الجثتان الصغيرتين تنتميا لصديقيّ " أولير " .. ( تفلت جدة أولير لعاباً داكناً بفعل التمباك على رأس حفيدها المحبوب قائلة: اشكر من جعلك تنام في هذا الوقت بالذات فقد انقذك النوم من موت محقق، ويعلم الله إذا مت لكنت لاحقة بك لا محالة لذا ستنام كلما بدأت الأمطار في الهطول مدى حياتك ). ( ص 34 ).
حاول الاهل والجيران اخفاء الأمر عن أولير ولكن الطفل رأى ما حدث لرفيقيه فأرتمى في حجر جدته باكياً ( مرتعد الأوصال وذاك الشريط الاسود يتقافز أمام عينه، هذا يعني الموت! موت صديقيه يعني انهما لن يلعبا معه لعبة الاستخباء، الموت يعني انهما لن يزجرا الطير من المزارع وهم يعلمون الببغاوات الشتائم المصاحبة لاسماء اصحاب مزارع الفاكهة البخلاء الذين لا يسمحون لهم بأكلها، ويغرقون في الضحك عندما يسمعون صاحب الاسم يتبادل الشتائم مع الببغاوات مرشقاً إياها بالحجارة ). (ص 34 )
أما " أولير " فبرغم موت جدته وبرغم انه صار شاباً قوياً ( يرقص بكل طاقته فينال بذلك اعجاب الفتيات اللاتي تتدافعن ليراقصهن. يجيد السباحة كأنه من سكان النهر، يتسلق الاشجار مثل قرد، الكل يستقبله باستحسان لسماحته مع الكل، كان عيبه الوحيد النوم عند هطول المطر ). ( ص 35 )
وسبب نوم " أولير " هي لعنة جدته التي دعت عليه بأن ينام كلما هطل المطر. ( أحياناً كان يأتي محمولاً على كتف أصدقائه عندما ينام في رحلة صيد أو أي مكان آخر. كانت امه تراقبه وتوصيه بأنه إذا احس بقرب المطر يجب ان يعود إلى البيت، ولكنه كثيراً ما يندمج مع اصدقائه ينسى حتى تداهمه الأمطار وسرعان ما ينام لتعود به الذاكرة اللعينة إلى عمر السادسة ). ( ص 35 )
ولكن قلب الأم لا يهنأ حتى ترتاح على مصير صغيرها ( أولير الشاب ) فالتجأت إلى عرافة بالجوار علها تذهب عن ابنها اللعنة. ولأن ( سمح الغنا في خشم سيده ) - على حد تعبير مقولتنا السودانية – أي ان الحديث لا يحلو إلا من فم صاحبه. فلتقرأ ما كتبت استيلا على لسان الراوي، واصفةً أجواء العرافة حينما التقت أولير وأمه ( كانت العرافة معطية ظهرها لهم وجسمها ملئ بالأحجية والتمائم، أحس " أولير " بالتقيؤ عندما اخترقت تلك الروائح الغريبة انفه، واضطرب عندما لمح ثعبان كبير يقبع في قرعة كبيرة، وقرعة أخرى ملئ بالدماء وطائر غريب يصدر أصواتاً آدمية، نطقت العرافة بإسمه كأنها تعرفه عن كثب وسألته بما يحس به أثناء هطول المطر حكى لها كل شئ، بعد ذلك اصدرت بعض الأصوات المخيفة والأبخرة تتصاعد نحو السقف المخروطي، اعطت الأوامر للطائر الغريب الذي طار خارجاً ثم عاد بعد قليل ليخبرها بأن الجدة هي التي لعنت حفيدها خوفاً عليه، طلبت العرافة معزة سوداء وبقرة حلوب، على أن يتم العلاج غداً صباحاً قبل شروق الشمس ). ( ص 36 )
اراد اصدقاء " أولير " الاحتفاء بدنو خلاص صديقهم من اللعنة، بعد ان سمعوا منه ما دار بينه وبين العرافة وكانوا في طريقهم إلى رحلة صيد حاملين ادواته. تاركين نسوة القرية منهمكات في صنع الطعام و( المريسة ) – والمريسة هو نوع من الخمور البلدية التي تصنع في السودان من الذرة النابت ولعلها تصنع في بعض دول الجوار كذلك – وكان الاجواء احتفالية في تلك القرية التي تحيطها الخضرة.
في الغابة أوغل الاصدقاء في سيرهم مرددين أغانٍ زنجية تتحدث عن القوة والشجاعة وفي هذه الاثناء تبلدت السماء بالسحب فارتبك " أولير " وأراد الرجوع فعلم اصدقاؤه السبب فنصحوه بمرافقتهم لأن طريق العودة للقرية طويل جداً واقنعوه بأن يظل بصحبته فإن هطلت الامطار ونام فسيحملوه في طريق العودة للقرية ( .. عموماً فهو آخر يوم لهذه اللعنة فدعنا نستمتع ونحن نرفعك على اكتافنا للمرة الأخيرة، فلن نحملك بعد اليوم ). ( ص 37 )
اثناء سيره في الغابة اعترضهم نهر سريع الجريان فسألهم " أولير " عن اجادتهم للسباحة فأنقسم الاصدقاء إلى فرقتين، فرقة قادرة على السباحة بامتياز وأخرى لا تجيد السباحة. فإنبرى " أولير " لإنقاذ كل من لا يجيد السباحة حتى يجتاز النهر ولما تمكن الجميع من العبور للضفة الأخرى عاد " أولير " مرة أخرى للنهر فلابد من ان يحضر الاقواس والرماح من ضفته الأخرى ولكن المطر بدأت قطراته تغازل جسد النهر و " أولير " يشق الماء بكل قوته. غير ان المطر اشتد هطوله واشتد الأمر على " أولير " .. ( بدأت اطرافه تسترخي وهو يصارع أقوى أثنين، مياه نهر هائج ولعنة الجدة). ( ص 37 )
وكانت النهاية الحتمية لبطلنا أولير ( .. عندما ابتلعته الأمواج والنهر مثل حيوان ضخم يتقلب في مرقده مبتلعاً كل شئ حتى جذوع الاشجار، و" أولير " في احضان الطبيعة يتحول إلى طفل في السادسة يتنهد في حجر جدته ذات الرائحة النفاذة وهو يراقب قملة تزحف متكاسلة ثم تندس بين طيات تنورتها، وذلك اللعاب الداكن يثقل فروة رأسه، فأس يهوي من السماء شاطراً شجرة إلى نصفين ثم نزيف دخاني وسائل أخضر، جثث تتدرج وقبر متشقق.
( تركوه هناك نائماً نومته الأبدية، غارقاً في لعنة جدته، والنهر يأخذه بعيداً عن انشودة المطر، بعيداً عن القرية المحاطة بالغابة والسماء، بعيداً عن البافرا وورق الموز). ( ص 38)
-أواصل بإذن الله -
الحوار المتمدن - العدد ( 4412 ) بتاريخ 2 إبريل 2014م بالرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=408480
Comments