مسيح دارفور ( 5 – 5 )
مسيح دارفور ( 5 – 5 )
توقفت في المقالة السابقة عند مشهد السيدة
النحيلة والدة الطفلين وقد تركها الجنجويد مقيدة بعد ان تم اغتصابها ( في الصباح
الباكر جاء الخواجات والأفارقة، كأنهم هبطوا من السماء، أو نبتوا من حيث لا مكان،
مريبون مثل اللصوص، يعملون بصمت ونظام، يصورون بسرعة، يشخبطون في كراساتهم، يتصلون
بأجهزتهم، يرطون بصورة مستمرة، عندما رأوها، تجمعوا بسرعة حولها مثل قطيع من
الذئاب أو الملائكة، كان الحزن بادياً على وجوههم جميعاً وأيضاً الخوف) ( مسيح
دارفور – ص 144).
قام هولاء الناس بتصويرها بدقة سألوها عبر
المترجم عن ماذا حدث. اخبرته، سألتهم جرعة ماء، وعن مصير ابنها محمد فلم يجيبها.
وكما جاءوا فجأة اختفوا فجأة دون ان يحلوا قيدها، دون حتى أن يغطوا جسدها العاري
تماماً. ثم جاء من بعد ذلك – بنحو ساعة من رحيلهم- الجند الحكومي فجأةً، وسألها
نفس الأسئلة ثم سألها إن كان وفد من الأجانب أو الأفارقة قد جاء إلى هذا المكان
قبلهم. اقترح أحد الجنود قلتها ودفنها مع ذويها، ولكن أحد الجنود الدافوريين تطوع بخلع
زيه العسكري وإلباسه للسيدة على أن يأخذه منها عندما تصل لمعسكر كُلمة. أخذها
الجند الحكومي للمستشفى العسكري حيث بقيت تعالج زهاء اسبوعين ولم تخلو هذه الفترة
من التحقيق الحكومي حول ما جرى لها،وبعد أسبوعين منحت ثياباً نظيفة ومالاً يكفيها
لأسابيع كثيرة ودفع بها لمعسكر كُلمة.
( كان رجلاً عادياً، مثله مثل أي شخص في
المكان، يشبه عشرات الأشخاص، يتردي عراقياً كان فيما سبق لونه أبيض، هو الآن يميل
إلى لون التربة الطينية الرملية، له أكمام قصيرة، ويُرى من الخلف متموجاً من كثرة
الجلوس واللبس المتكرر، تحت العراقي يرتدي سروالاً طويلاً إلى ما دون الركبة، حيث
يتحول إلى تموجات من الترترون ما قبل الرسخين، ليس برأسه عمامة أو طاقية، ليست له
نظارات شمية، ولا ساعة يد، أصلع الرأس تماماً كما لو أنه فرغ منه الحلاق للتو،
لونه أسود، عيناه كبيرتان بيضاوان تنظران في عمق وبقوة، يمشي حافياً، وليس بقدميه
تشقاقات) (الرواية – ص 153)
في الفقرة عاليه يقدم الرواي وصف مفصل لمسيح
دارفور أو إبن الإنسان كما يسمي نفسه، وكان أمام إبراهيم خضر بعد أن وقع هو وأسرى
المعسكر في يد الجانب الحكومي، كان أمامه مهمة إيجاد أجوبة لأسئلة السلطة المركزية
بشأن مسيح دارفور حيث أوضحوا له بأن (ليست من مهامنا البحث عن أسراره، ولا حتى
تأكيد نبوته أو الكفر بها، مهممتنا الحقيقية هي الإجابة على الأسئلة التالية:
أهو من العرب أم من الدارفوريين؟
هل نبوة هذا الشخص تخدم مهمة السُلطة في
دارفور؟
إلى أي مدى؟
هل نبوته ضد الحكومة المركزية في الخرطوم؟
هل استخدم المتمردين والأهالي الناقمين
علينا؟
أم أنها مجرد إدعاء نبوة والسلام، أي نوع من
الشعوذة والدروشة الصوفية الهلامية التي لا تصب في غير بحر الذات الوهمي الكبير،
على حسب تعبير القائد المتفلسف الشاب). (مسيح دارفور – ص 154)
قررت مريم المجدلية أن تلتحق بمؤمني مسيح
دارفور. وكان الأخير في انتظارها وكثيراً ما حدثهم عن مريم الحبيبة كما التحق أسرى
المعسكر بمؤمني مسيح دارفور كذلك، وانضم إليه إبراهيم خضر غير أنه لم يكن مؤمناً
به كما لم يكن كافراً به. غير أن النجارين وشبه النجارين آمنوا به والجنود ال66
كذلك فعلوا.
المؤمنون بي والكافرون:
في هذا الفصل يحدثنا الرواي عن التشابه
الكبير بين مسيح دارفور والسيد المسيح حيث أن الأول اسمه عيسى وامها اسمها مريم
كذلك هنالك تشابه حينما لاحظ أهل القرية حدوث بعض الأشياء الخارقة للعادة لمسيح
دارفور، وأرادوا ان يحدثوا المسئول الحكومي بالمنطقة في تلك الفترة التي شهدت
أعداد كبيرة من مدعي النبوة وبالتحديد من يزعمون انهم السيد المسيح أو المهدي
المنتظر وكانت الأجهزة الحكومية تلقي القبض عليه لمحاكمتهم وغالباً ما تنتهي
المحاكمة بقتل مدعيي النبوة.
خاف آل مسيح دارفور على مصير ابنه فلاذوا
بإحدى مغارات جبل أم كردوس شرقي مدينة نيالا. أمهم مريم هي ابنة الشيخ عمران أحد
أعيان المنطقة صاحب المواشي الذي تنتهي أصوله إلى قبيلة عربية هاجرت منذ القرن
الهجري الأول من المدينة المنورة بالجزيرة العربية.
ملك الموت:
هو الفصل الحادي عشر من الرواية والذي يعود
فيه الرواي مرة أخرى بالحديث عن مسيح دارفور ولكن من جانب الرواية الحكومية التي
حقق 90% من أهدافها في حرب دارفور ( ومن الأهداف الثانوية التي تحققت للسلطة
المركزية هي أن تبدو الحرب في دارفور كما لو أنها حرب بين مجموعتين وهميتين وهما
ما يُسمى بالعرب والزرقة، وهاتان المجموعتان لا وجود لها في الواقع، ولا توجد أية
حرب بينهما، وكان ستتبنى فكرة مسيح دارفور إذا كان قد أعلن أنه سيحارب العرب في
دارفور أو الزرقة، أو أنه ضدهما الأثنين معاً، أو أصبح له رأي واضح في مسألة
الهوية مثل مُدعي النبوة العيسوية الكثيرين
الذين ظهروا في نيالا منذ عام 1921، بغرض مقاومة الاستعمار الإنجليزي. ولكن أن
يدعي النبوة شخص أبوه ممن تسميهم الدولة الزرقة، وأمه ممن تدعوهم بالعرب، ويتبعه
الإثنان، ويكره الجنجويد، ويجعل العسكر والنجارين وأشباه النجارين يؤمنون به،
وبكلمة واحدة يجعل وادٍ بأكمله يخلو من الإبل والأبالة). (مسيح دارفور – ص 178).
أوكلت الحكومة جيشاً من الجنجويد لدحر مسيح
دارفور وجعله على رأس هذا الجيش شخصاً غريباً عنيفاً هو جربيقا جلباق او ( أبو
دجانة ) كما لقبته السلطة المركزية بالخرطوم.
فيما ما تبقى من أوراق تخص هذا الفصل من الرواية
يورد عبد العزيز بركة ساكن على لسان الرواي جانباً من الحوادث الخارقة للعادة التي
جرت مع مسيح دارفور من بينها حادثة الماء الشهيرة التي يرويها يحي ابن خالة مسيح
دارفور فيقول: ( بينما كنا نسبح باستمتاع ونلتقط بعض الأشياء التي تأتي بها الوادي
من قرى اجتاحتها السيول، أو غابات قضت عليها وانتزعت شجيراتها من جذورها، وإذا
بالماء العكر المحمل بالطمي ومخلوقات الغابات وأشجارها، يصفى ويصبح نقياً جداً
وهادئاً جداً، ولامعاً مثل الفضة كلما اقترب من عيسى أو حوله، وقد لاحظت أنه شكل
هالةً غريبةً تفوق دائرتها المترين، كان هو مندهشاً مثلي، بل خائفاً جداً، وكلما
انتقل إلى مكان آخر انتقلت الهالة الغريبة معه ). ( الرواية – ص 181)
في طريق ابن الإنسان:
في هذا الفصل من الرواية يشير الراوي إلى أن شارون،
شيكيري توتو كوة وعبد الرحمن صاروا مثلث الربع بالنسبة للقوات الحكومية بعد ان حرروا
قرية ضُلاية من الجنجويد والجيش الحكومي واعترضوا حملة مسك الختام بقيادة جربيقا
جلباق ( أبو دجانة ) التي كانت في طريقها للقضاء على مسيح دارفور. حيث أن (شارون
ومساعداه، نصبا كميناً جيداً على تخوم جبل أم كردوس قضى على قوة جُلباق قضاء
مُبرماً، وراح ضحيته جلباق نفسه، كمينٌ قال عنه شيكيري توتو كوة، وهو يضحك مقلداً
شارون: سيحكون عنه كثيراً في الجحيم لإخوانهم). (مسيح دارفور – ص 190)
مريم الحبيبة:
في الفصل قبل الأخيرة من الرواية تلتقي مريم
موسى أو مريم المجدلية كما يسميها شارون أو مريم الحبيبة كما يسميها مسيح دارفور.
تلقتي مريم في هذا الفصل بمسيح دارفور، تعرفت عليه من الوهلة الأولى كان مختلفاً
كثيراً عن شارون ولكن القاسم المشترك بينهما (الشي الوحيد الذي يجمع الرجلين هو
كراهيتهما للجنجويد، تلك الكراهية التي لها رائحة تشم، ولون يرى، وصرخات تسمع،
وأنين وحجيم ولقد قال عنهم شارون مرة، إنه لا يدري إذا كان الجنجويد قد خلقهم الله
الذي خلق الوردة والماء؟؟ أم أنهم قد تم تحضيرهم في المعمل مثلهم مثل الجراثيم
والقنابل النووية، كأحد أسلحة الحرب؟ لأن الجنجويد يفتقدون لأبسط القيم الإنسانية،
دعنا من قيم التسامح والحب والجمال). ( الرواية – ص203).
الموكب:
تحت هذا العنوان ( الموكب ) نكون – نحن
القراء – قد أتينا على الفصل الأخير من الرواية (والغريب في الأمر، في النوم أنهم
جميعاً حلموا، حلماً واحداً، حلماً شاسعاً وكبيراً، كان الموكب العظيم ينطلق من
المغارة ذاتها، تتقدمه المرايم والنساء الكثيرات اللائي قدمن من نيالا وكاس
وزالنجي مؤمنات ومحبات، كان الصدق الذي في قلوب النساء يضيء طريق الموكب). (مسيح
دارفور– ص 213)
كهذا
إذاً انطلق الموكب (من ذات الكهف، كان يتوغل في الأمكنة، يعبر الأراضي الصحراوية وشبه
الصحراوية، والغابات والوديان المخضرة، عندما يمر بالقرى المحروقة، تنهض البيوت من
رمادها، تتطهر آبارها من السم، تنمو الأشجار التي قطعت، الأواني المهمشة تقوم من
حطامها وتصير كما كانت). ( الرواية – ص214)
إذن
هو موكب خير يعيد الأمور لسيرتها الأولى ( كانوا لا يدرون إلى أين يسير الموكب،
ولكنهم كانوا يعرفون أنه يسير لوجهة ما وجهة كلها خير، إذا لم تكن نحو الجمال،
فالموكب يدري وجهته. على الرغم من ثقل الصلبان كانوا يحسون كما لو أنهم يطيرون،
يحلقون عالياً في السماء التي مثل أحضان أم عظيمة لا نهائية تضمهم إليها وتبتسم).
(مسيح دارفور – ص 216).
وبعد ...
هكذا انتهت رواية (مسيح دارفور) والتي أخذت
أربعة سنوات من عمر الأديب السوداني عبد العزيز بركة ساكن ليكتبها في الفترة من
(2008م – 2012م) بين مدينتي (خشم القربة) و(الخرطوم). ولدي بعض الملاحظات حول
الرواية سأوردها في السطور القادمة من خاتمة هذا المقال.
ثمة ملاحظات:
-
بعاموده الراتب بصحيفة الشرق الأوسط وتحت
عنوان: ( هل يتنازل البشير؟ ) كتب الاستاذ عبد الرحمن الراشد عن ما وصلت إليه الأوضاع
الإقتصادية والسياسية والإنسانية بالسودان في ظل نظام البشير وسأنقل ما ذكره بشأن
دارفور لارتباطه بموضوع مقالاتي، يقول الراشد: ( .... وأرتكبت قواته مذابح في
دارفور، غرب البلاد، لا تقل بشاعة عن جرائم الأسد في سوريا، باستثناء أنه لا توجد
هناك كاميرات ووسائل إعلام تنقل أخبار مسلسل الرعب الدموي). وبالمثل فإن ما أورده
الراوي والقاص عبد العزيز بركة ساكن بشأن حرب دارفور هو نذرٌ يسير بما يدور على
الأرض هناك. وبالمقابل فإن الأسلوب الساخر الذي يشتهر به عبد العزيز بركة ساكن لم
يفلح هذه المرة في تخفيف جرعة التراجيديا الزائدة في ( مسيح دارفور).
-
تعرضت الرواية فيما تعرضت لحرب دارفور التي
تدور راحها منذ العام 2003م وحتى تاريخ كتابه هذه السطور. كما انها تعرضت كذلك
لسيرة أسيانة ونقطة مظلمة في التاريخ السوداني وهي مسألة العبيد كما اتضح من سيرة
أحد أبطال الرواية وأعني به إبراهيم خضر إبراهيم.
-
هنالك خيط يربط بين شخصيات الرواية – ما عدا
شخصية جربيقا جلباق – وهي كراهية الجنجويد والثورة على الواقع الدارفوري الحالي
ومحاولة تغييره وإن اختلفت آلية التغيير بين وسيلة سلمية ينتهجها مسيح دارفور وبين
الحل العسكري كما ينتهجه شارون، عبد الرحمن وغيرهم.
-
حادثة توقف الحافلة بنقطة تفتيش سوبا والقبض
علي الهاربين من أداء الخدمة الوطنية ( شيكيري وابراهيم) هي حادثة تكررت بكثرة في
السودان وعايشها كثير من الشباب السوداني في عهد النظام الحالي بالسودان. كما أن
إيراد حادثة إعدام الاستاذ محمود محمد طه بسجن كوبر الشهير جعلت الرواية تمازج بين
الواقع والمتخيل ونجحت بالتالي - في رأيي – جذب القراء وربما في كسب تعاطفهم –
وبالأخص القراء السودانيين – مع أبطال
الراوية باستثناء الشخصيات التي تنتمي للجنجويد.
-
رغم ان رواية ( مسيح دارفور ) تتعرض بشكل غير
مباشر لتفاصيل ما يجري بدارفور إلا انها تعد من الأعمال التي تتحدث عن جرائم الحرب
وسياسات التطهير العرقي التي تجري بدارفور تحت سمع وبصر المجتمع الدولي. فما جاء
بالرواية لا يختلف كثيراً عن ما يجري في الواقع.
-
لغة عبد العزيز بركة ساكن تجعل – في رأي
الشخصي – قارئ/ة روايته لا يتوقف عن القراءة حتى يفرغ من إكمال الرواية. وقد لف
الأديب الأنظار إليه منذ أول رواية نشرت له وهي رواية (الطواحين) التي شكلت مع
روايتي (رماد الماء) و(زوج إمراة الرصاص) ثلاثيته التي سماها ( ثلاثية المدن
الكبيرة.) وامتد هذا الإهتمام بكتابات عبد العزيز بركة ساكن أن قرر المعهد العالي الفني بمدينة سالفدن
النمساوية، واعتباراً من 16 من شهر أكتوبر لهذا العام، تدريس روايته ( مخيلة
الخندريس) للطلاب والطالبات في هذا العام الدراسي. (صحيفة " اليوم السابع"
– عدد الثلاثاء 15 اكتوبر2013م - بتصرف).
مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 25 أكتوبر 2013م
Comments