مسيح دارفور ( 4 – 5 )
مسيح دارفور ( 4 – 5 )
شيزوفرينيا المستلب:
يبتدر الرواي في هذا الفصل من الرواية بالحديث عن شيكري
الذي أصبح ( ملماً بكل هذا الإرث المؤلم، وملكه بذلك نفسه تماماً، وما كان يظن
شيكيري أن إبراهيم يحمل كل هذا الماضي الحزين، أما من جانب إبراهيم فحكايات أصله وفصله
جزء من أسطورته ذاته، فهو لا يخجل منها،
بل يستطيع أن يقول إنها تمنحه قوة وثقه نفسه، ودائماً ما ينظر بإجلال
لهؤلاء النفر من جدوده، الذين ذاقوا مرارة الحرمان، وبعضهم منذ ميلادهم حتى
مماتهم، لم يعش يوماً واحداً كإنسان حر، لم يستمتع بجمال هذا العالم المدهش). (
مسيح دارفور – ص 107).
على النقيض تماماً من إبراهيم كانت أخته التي اقنعت
نفسها بالحكايا التي كانت تحدثها بها جدتها بخصوص أن أهلها في الزمان القديم كان
لهم خدم وحشم ويبيعون ويشترون في العبيد كيفما شاءوا وكيفما اتفق. ولأجل ذلك عندما
التحقت بجامعة الخرطوم تجنبت صداقة ابناء جلدتها القادمين من أقاصي دارفور وبتسم
علها القدر عندما يفتن احد المخرجين بجمالها فيقدمها للتلفزيون ثم يبتسم لها الحظ
مرة أخرى عندما تتعاقد معها محطة فضائية خارجية وبتسم لها الحظ تارة ثالثة عندما
تنجح في اجراء عملية تجميل لأنفها في فرنسا تنجح على اثرها في التخلص من آخر أثر
داخل على أصولها.
اصبح شيكيري اثر تورطاً في الحرب بسبب عبد الرحمن، بينما
أصبحت الأخيرة (فقد أخذت تحوز على مركز قوة تدريجيا، فمنذ اليوم الذي شوهدت فيه
تمزق ملابسها في وسط المدينة، وترتدي البذلة العسكرية، قد أصبحت شخصاً آخر، شخصاً
يسعى للسلطة والسيطرة بكل ما أوتى من جهد وحيل ومكر، وكان واضحاً أنها تسعى لأخذ
موقع في قيادة الحركة). (الرواية – ص 108).
في شهور الخريف جرت مفاوضات بين وسيط عربي لعقد اتفاقيات
بين الفصائل المتحاربة - التي يقود شارون
بعضها - والحكومة المركزية، كما حضرت عبد الرحمن تلك المفاوضات التي كانت تنظر
إليها على أنها ( هدنات يعيد فيها الأطراف جميعاً ترتيب أوضاعهم وتأمين الإمدادات
العسكرية والطبية لمقاتليهم، ويحاول كل طرف من خلالها أن يحطم معنويات الآخر). (
مسيح دارفور – ص 109)
وشارون رأي لا يختلف كثيراً عن رأي عبد الرحمن بشأن هذه
الاتفاقيات ( شارون يرى أن الحرب بالنسبة للحكومة والجنجويد قد أدت غرضها بنسبة
90% وهو المتمثل في تهجير قبائل الدارفوريين إلى ثلاث جهات: المعسكرات إلى تخوم
المدن الكبرى، مثل نيالا، الفاشر والجنينة وقد تبني لهم قرى نموذجية بتمويل عربي
إسلامي يجبرون على الإقامة بها، وإما إلى دولة تشاد كلاجئين، أو للآخرة كموتى، وما
تبقى من ال10% إما كرق في القرى التي يسيطر عليها الجنجويد، أو ينتظرون دورهم في
الموت والتهجير لتحل محلهم المجموعات البشرية القادمة من النيجر وجمهورية تشاد تحت
مسمياتٍ قبليةٍ كثيرةٍ ولقب مرعب واحد هو الجنجويد: جنٌ على ظهرِ جوادٍ وفي يده جيم ثلاثة، أو مقاتلون في أحراش دارفور).
(الرواية – ص 110).
هذا سارت الأحداث قبل ان يستيقظ المعسكر بأكمله على
مشادة كلامية بألفاظ نابئة بين عبد الرحمن ومريم المجدلية وسببها أن الأولى أحسن
ان هنالك علاقة بين زوجها شيكيري ومريم وإن كانت لا تدري على أي درجة انتهت إليها
هذه العلاقة، فعمدت مريم إلى التلميح والتصريح بأن عبد الرحمن تستخدم شرفها في ما
تستخدم من ادوات لإصطياد الجنجويد وقتلهم. كانت مشادة كلامية حامية الوطيس، نجحت
الغارة الحكومية فقط في أيقافها حينما احتمى الجميع بالمغارت الآمنة بالمعسكر ومن
جانب المعسكر فقد اشار شارون بإطلاق الصواريخ لإسقاط المروحيات الحكومية مما جعل
تلك المروحيات تولي الأدبار.
على اثر هذه الغارة اجتمع قادة المعسكر للتشاور بين
أمرين: مقترح عبد الرحمن بمهاجمة السلطات الحكومية في معاقلها في نيالا وغيرها من
المدن الدارفورية. بينما رأي شارون ان يجر العدو ويغريه بمهاجمته في معسكره حتى
يقضي على الجيش الحكومي والجنجويد ويستأصل خضرائهم.
اجمع المجتمعون على رأي شارون. وعن الآخير يشير الراوي
إلى أنه ( ويعرف العارفون أنّ شارون يقرأ كثيراً مذكرات جيفارا، ويمتلك الكتاب
الذي ألفه فيدل كاسترو عنه، ويعتبر جيفارا
هو مسيح المناضلين ومذكراته انجيلهم، ولكنه يقول دائماً انه: يؤمن ببعض الكتاب). (
مسيح دارفور – ص 114).
لشارون فلسفة خاصة به بشأن المناضل ( ويشرح شارون ذلك
بأنه لا يفهم كيف يحارب الرجلُ ضد الثوار في الجنوب، ويقتل أطفالهم ونساءهم
وشيوخهم، ويحرق قراهم دون رحمة، بل يعتبر ذلك مرضاة لله سبحانه وتعالى وجهاداً في
سبيله، ثم ينقلب بين ليلة وضحاها، ليصبح ثورياً عندما تهم ذات السلطة التي كانت
تستخدمه، بذات المبادئ والشعارات والأخلاق، بإدارة الحرب في مسقط رأسه، مستخدمة
بالطبع آخرين أو إخوته، أو هو ذاته بأسلوب ميتافيزيقي قد لا يتأتي عليه فهمه تحت
ظل عطر البارود وقعقة الرصاص. كان شارون يسمى ذلك شزوفرينيا المستلب، الذي ليس
بإمكانه أن يفهم أكثر من الحقيقة، ولا يعي سوى بعض الواقع، وبالتالي لا يقوم سوى
بشيء من الواجب. وقد يكون ضرر هذا الشيء أكثر من نفعه، فالثوري يحتاج للقلب النقي
أكثر من اليد القوية، أو الاثنين معاً بذات المقدار). (الرواية – ص115).
عاودت المروحيات الحكومية غارتها على المعسكر فرأى شارون
في لحظة إنسانية ان يطلع سراح الأسرى ويشير عليه بالانصراف سريعاً ويبتعدوا من هذا
المكان . (وعندما تخطوا الدرع الجبلي وانطلقوا بين الأشجار، كانوا عشرين رجلاً،
ولكنهم الآن واحد وعشرون، لقد انضم إليهم إبراهيم خضر، الذي كا ينتظر تلك الفرصة
بل ويحلم بها، هرب قبلهم بزمن قصير، ولأنه يجهل طبيعة المنطقة، ظل مختبئاً ، إلى
أن يوطن نفسه على فكرة، وفوجئ بالأسرى، فتبعهم). (مسيح دارفور – ص 117).
العنكبوت:
في هذا الفصل من الرواية يعود بنا عبد العزيز بركة ساكن
إلى أصل المشكلة، متناولاً قرية خربتي الجبل، التي يشير إلى انها غير معروفة حتى
لمن ولد ومات بدارفور (قرية صغيرة تقع على مضب صخري جنوب جبل مرة، سكانها القليلون
يعملون في زراعة المانجو والبصل وقليل جداً من الذرة للاستهلاك اليومي).
(الرواية - ص 118)
وعن مصدر المياه بالقرية يشير الراوي (يعتمدون في شرابهم
وسقيا حيواناتهم على ماء اليمامات من الخور الوحيد الذي يهبط من الجبل عابراً
جنائن المانجو التي يملكونها) . (مسيح دارفور – ص 119)
أما فيما يتعلق بالتسمية فإن (الشيخ آدم كٌويا هو شيخ
خربتي، التي إذا سمع بها أحد المثقفين، سيحك فروة رأسه الأصلع، وإذا كانت برأسه
بعض الشعيرات فإنه سيبرمها بأنامل مرتعشة، يستغرق التفكير، ثم يفكر: إنّ اسمها
غربتي، ولكن لأن أهل تلك المنطقة ليس بلغتهم حرف غين، وينطقونه خاء، فأصبحت خربتي.
والحقيقة غير ذلك تماماً. فهي في الأصل كانت كلمتين: خور وبتي، أي خور بتي، وبتي
ليست هي ابنتي كما بدراجة كثير من أهل
السودان، ولكنه اسم فقيه، أول من أقام بهذا المكان. وهو الشيخ آدم كُويا فكي بتي
هارون). (الرواية – ص 122).
نعود لجذور المشكلة ( في صيف 1988 قبل هطول الأمطار
بخمسة وأربعين يوماً، جاء إلى قرية خربتي شيوخ من الأعراب، وليس غريباً أن يرى
الناس مثلهم من حين لآخر يتجولون حول أراضيهم، ويرسمون معهم وآخرين مسارات لمرور
الماشية). (مسيح دارفور – ص 119).
هدف الزيارة كما اوضحها اكبر الأعراب سناً أنهم يطلبون
جوار قرية خربتي بسبب الجفاف الذي ضرب واديهم ويودون منحهم بعض الأراضي الطرفية
للقرية كيما يرعوا فيها ماشيتهم. طلب شيخ قرية خربتي – بعد أن أكرم الوفد – أن
يمهل فترة من الزمن لعقد المشورة قبل أن يجيب بالرفض أو الايجاب.
كان الشرتاي – وهو مسئول الإدارة الأهلية بالمنطقة – يرى
أن الأعراب لا يحسنون الجوار وأن الإغارة تجري في شرايينهم مجرى الدم ولكن رأي أن
يهمله الشيخ آدم كويا شيخ قرية خربتي بعض الوقت إذ ان الشرتاي لا يرى لا بأس من (
يستشير ملك دار المساليت بالجنينة وملك الداجو بجبل أم كردوس وملك الزغاوة بشنقلي
طوباي، وأنه سيفيده بالنتيجة قبل وقت كاف. فأرسل الشرتاي رسله إلى: سلاطين كاره
ودنقو وفنقرو وبنه وبايه وفوقي وشالا وملوك البرقد والتنجر وكبقة والميمة
والمسبعات في الشرق من جبل مرة. المراريت والعورة وسميار والقِمر وتامه
والجبلاويين وأب درق وجوجة وأسمور في الغرب والشمال الغربي وزغاوة كبا والميدوب في
الشمال والشمال الشرقي والبيقو ورنقا في الجنوب والجنوب الغربي). (الرواية – ص
123، 124)
ولم ينسى الشرتاي أن يستشير (القبائل العربية الرعوية
الذين كانوا قد أقاموا من قبل وأصبحوا جزء لا يتجزأ من الأرض، وأصبحوا أصحاب
مصلحة، كان عليه أن يستشيرهم أيضاً، مثل الهبانية والرزيقات والمسيرية والفلاتة
والتعايشة وبني هلبة والمعالية في جنوب دارفور والماهرية وبنو حسين في غرب
دارفور). (مسيح دارفور – ص 124)
جاءت النتائج تبعاً وكلها ايجابية تقريباً ما عدا قبيلة
واحدة رأت أن قبيلة بني حسن هي قبيلة تميل لسفك الدماء ولكن الشرتاي لم يأخذ
برأيها لعلمه بالحروب التي وقعت بين القبيلتين في السابق. بعد أسبوعين تم أداء
القسم للتعاضد وحسن الجوار بين قرية خربتي وقبيلة بني حسن ( ولكي يثبت شيخ بني حسن
حُسن النية ، كانت في صحبته ابنته الصغرى وعشر أخريات من بنيات العُمد والشيوخ وطلب تزويجهم في الحال
لأعيان خربتي، وبالمقابل قام أهالي خربتي بتعيين اثنيي عشرة فتاة من بناتهم
وتزويجهن لأعيان بني حسن، تم ذلك في احتفالية ضخمة استمرت أسبوعاً كاملاً، رقص فيها الجميع على إيقاعات طبول بني حسن
ونقارة الفور معاً، وأخيراً: دعوا الله في صدق أن يبارك لهم هذه الجيرة وينصرهم
على الأعداء، فلقد أصبحوا الآن من دم ولحم ). (الرواية – ص 125 و 126).
يشير الرواي أنه ذكر هذه الفذلكة التاريخية بهذا التفصيل
المفصل ( لكي نفهم كيف كان الأمر في غاية الصعوبة للمسئول الحكومي الذي جاء بعد
عشرين عاماً لتلك القبيلة العربية، قبيلة بني حسن يحمل أسلحة وذخائر وخبراء تدريب،
كما فعل مع عشرات القبائل العربية، طالباً منهم استلامهم للدفاع عن أنفسهم ضد
النهب المسلح الذي تقوم به قبائل الزُرقة فإنهم سألوه أولاً: من هم الزرقة.
( شرح لهم من هم
الزرقة، ولكن الأمر اتلبس عليهم، لأن كل المواصفات التي بالزرقة متوافرة في كل فرد
من أفرادهم، لذا قام باتباع أسلوب آخر في إقناعهم، بأن قبائل الفور والزغاوة
والمساليت والداجو يعدون خططاً سرية للقضاء على العرب بدارفور وذلك لتقسيم المنطقة
إلى ثلاث دويلات، وهي مملكة زغاوة الكبرى وتضم كل فروع قبيلة الزغاوة وستجد الدعم
من دولة تشاد وهي تستولي على شمال دارفور،
ودارفور تضم الفور والتنجور والكنجارة والداجو، وهي مدعومة من إسرائيل وستستحوذ
على وسط وجنوب دارفور، ودار المساليت وهم منذ 1919 يعدون أنفسهم للانفصال في دولة تشمل كل غرب دارفور، وتدعمهم ليبيا،
بالتالي أين سيقيم العرب؟ ) ( مسيح دارفور، ص126، 127).
ولكن يبدو أن هذه الحيلة لم تنطلي على شيوخ قبيلة بني
حسن. فلجأت السلطة المركزية للحل العسكري عملاً بمقولة شعبية دارجة في السودان
وهي: ( آخر العلاج .. الكي ). الردود التي جاءت من شيوخ بني حسن بأنهم لم يسمعوا
بهذه الدويلات وأن الجماعات التي تقوم بالنهب المسلح هم بعض أفراد من قبائل الفور
ولم يطلب منهم أحد أن يغادروا اراضيهم وأنهم لا يرغون في حمل السلاح ولا التدريب الشعبي. فطلب منهم المفاوض الحكومي بما
انهم لم يقبلوا التسيلح عليهم ان يتراجعوا جنوباً ويخلوا منطقتهم الاستراتيجية
لتسكنها قبائل عربية من ابناء عمومتهم رعاة الإبل، لا يمانعون في حمل السلاح والقضاء
على المشروع الانفصالي للزرقة.
شيوخ بني حسن يعلمون في قرارة انفسهم انهم إن قبلوا
بالتسليح والخبراء العسكريين بقريتهم ( سيصبحون مقاتلين مثلهم مثل كثير من القبائل
التي انطلت عليهم الخدعة، حيث طٌلب منهم مهاجمة جيرانهم الذين تعايشوا معهم منذ
مئات السنين وعندما رفض شيوخ وكبار السن ذلك قامت الحكومة باستبدال القيادات
المجتمعية والشعبية المتوارثة بقيادات شبابية أسمتهم الأمراء، أخذتهم لدورات
تدريبية نفسية واجتماعية وعسكرية بالخرطوم، وإعادتهم لقبائلهم وقد تغيرت عقلياتهم
وأصبحوا لا يفكرون سوى بالحرب ولا يخشون سوى من خطر الزُرقة عليهم. ) (الرواية – ص
127، 128)
وهكذا سادتي القراء بدأت الحكاية التي استمرت منذ 2003
وحتى العام الحالي، عشر سنوات ودارفور تعاني الإبادة الجماعية والتطهير العرقي مما
جعل القائد الجنجويدي: موسى هلال، والوالي أحمد هارون والرئيس السوداني عمر حسن
أحمد البشير من ضمن المطلوبين لمحكمة لاهاي الدولية بتهمة اشرافهم على الجرائم اعلاه.
وهذا حديث آخر.
وكانت النتيجة المتوقعة (عاد وفد الحكومة بأسلحته
وخبرائه، ولكن بعد أسبوعين جاء الأبالة الذين عرفوا بالجنجويد، يحملون زاداً
ثقيلاً من الأسلحة وفي رفقتهم، عربات لانكروزر مقاتلة وكثير من الخبراء العسكريين
وأقاموا في ضيافة إجبارية لدى شيخ عرب بني حسن، كما أنه كان في رفقتهم أمير
القبيلة المعين الشاب المجاهد المقاتل في سبيل الله الذي لم يرونه من قبل لا
يعرفون له اسما له ولا قبيلة.
في الأسبوع الثاني، كانت قرية خربتي الجبل، كأن لم تكن،
ليست سوى بقايا رماد وجثث متفخمة، وحدائق مانجو محروقة، الأحياء من النساء
والطفلات المغتصبات، أخذتهم القوات الحكومية وبعض منظمات الإغاثة، إلى معسكر كُلمة
بنيالا، وكانت من بينهم طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، وجدت حية تحت جثث أفراد
أسرتها، أخبرت عمال الإغاثة بأن اسمها عبد الرحمن. أما الرجال والأطفال الذكور فقد
تركوا بالقرية في مقابر جماعية ضخمة وقبيحة). (مسيح دارفور – ص 129)
كيف كفرت العمة خريفية:
يعود بنا هذا الفصل من الرواية إلى شتاء 2004م حينما
كانت العمة خريفية بسوق نيالا تبيع البطاطا والبصل على فراش من الكتاب بللته
بالماء كما جرت العادة وجاءتها تلك المرأة النحيفة الطويلة تسألها عن طفليها الذين
كانا يلعبان حينما جاء الجنجويد وأخذهما, العمة خريفية تعرف قصة المرأة تلك ولكنها
هي المرة الأولى التي تسمع الرواية من فم بطلتها نفسها.
بالقرية التي كانت تقطنها تلك المرأة. اجتمع أهل القرية تحت
راكوبة شيخ القرية جبريل، بشأن إشاعة وردت إليهم بغزو وشيك من قبل الجنجويد ولما
تأكد صدق هذه الإشاعة اقترح شيخ القرية علي أهله مناقشة الحلول ( قرر الناس إما
الاحتماء بالجبل أو الإسراع في هجرة جماعية سريعة إلى مدينة نيالا والإنضمام إلى
النازحين في معسكر كُلمة على الشباب ومن شاء من الكبار الالتحاق بقوات الثوار ومنذ
اللحظة). (الرواية – ص 133)
كانت القرية على رأي رجل واحد، عدا الفنان عازف الربابة
الذي رأى انه لن يترك مصير ابقاره للجنجويد ولن يغادر أرض اجداده ويتركها ( للعرب
الغرباء الآتين من النيجر وتشاد ونيجريا أو الصحراء الموريتانية، عاتبه الشيخ، لا
تكون مثل ابن نوح، وخير لك أن تتبع رأي الجماعة، إنهم سوف لا يرحمونك ولا يرحمون
أسرتك.
-
وأنت عارف وشايف.
قال أفضل له أن يصبح مثل ابن نوح من أن يصبح مثل مخلوق
تافه في سفينة نوح، ). ( مسيح دارفور، ص134)
وانتهى مصير الفنان واسرته كما توقع الشيخ ولكن بسيناريو
أكثر قساوة حيث ماتت الجدة ام زوجة الفنان، وتحرشوا بزوجته ( التف حولي عدد كبير
منهم، أبدوا ملحوظات حول جسدي وطلبوا مني أن أخلع ملابسي إذا أردت أن أترك حية،
وإلا اصبح مصيري مصير أمي المضرجة بدمائها التي ارتاحت منهم قبل قليل، قلت لهم:
لا، عايزة أموت
توا أم نسقوك التراب
أدبحوني). (الرواية – ص 134)
ولكن كان للغزاة رأي آخر حيث انهم ربطوها إلى جذع شجرة
وباعدوا بين رجليها بأن ربطهو ربطاً محكماً على شجيرات متفرقات وتوالوا عليها حتى
أصابها الإغماء وحينما افاقت ( كانت جثة طفلها الذبيح مسجاةٌ ليس ببعيد عنها رأسهُ
المتورمة ترقد أبعد قليلاً، تريد أن تلمس رأسه، كأنما سوف تواسيه بذلك أو تقلل
ألمه، لم تحس أنه ميت، بل يرقد برأس مفصولة متورمة عن الجسد تجمد الدم عليه في
مكان العنق، تحس أنه يحتاج إليها، يجتاجها بشدة. أمها مسجية في موتها السعيد
يمينها ، تتسع ابتسامتها كلما تورمت جثتها، حر الشمس يعجل بتعفن الجثث، يشوي جسدها العاري، لا تستطيع أن تهش الذباب عن وجهها
وعينيها إلا بصعوبة بالغة، كانت صورة طفلها محمد وهو يهرب لا تفارق عينيها، لا
أدري هل قضوا عليه أم أنه استطاع أن ينجو ولكن كيف ينجو، وضعت عشرات التصورات
لنجاته ولكنها كلها انتهت إلى نهاية مأساوية). (مسيح دارفور – ص 143).
أتوقف هنا عند هذا الجرعة الزائدة من التراجيديا لأني
وبكل صراحة عندما تخيلت هذه المشاهد اصابني القرف من هؤلاء الكائنات التي تسمى
بالجنجويد.. سأواصل في المرة القادمة إن شاء الله في الجزء الخامس والأخير من
سلسلة مقالاتي عن رواية (مسيح دارفور ) للأديب السوداني: عبد العزيز بركة ساكن
.... فإلى لقاء قريب
Comments