مسيح دارفور (3 – 5)


مسيح دارفور (3 – 5)


توقفت في المقال السابق عندما اكتشف شيكيري ان زوجته عبد الرحمن  - أو عبد الرحمانة  كما في قسمية الزواج – ليست بالمرأة الطبيعية ومرد ذلك إلى طلبها الذي اشارت إليه في أيام زواجهما الأولى بل ( في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: إما أن ينتقم لها، أو يساعدها على الانتقام، ولا خيار ثالث). ( مسيح دارفور – ص 44) .

وبشيء من التفصيل تفيده بأنها ( كانت في انتظار أن يكون لها رجلٌ، مهنته جندي وشجاع، ينتقم لأجلها، على الأقل يقتل عشرة من الجنجويد، وهي سوف تأكل كبدهم نية). ( الرواية – ص 44).

كان ردة فعل شيكيري دهشة عارمة حيث انه حارب ضد الطورابورا ولكنه – بتعبير الرواي – ( لم يقتل ولو دجاجة واحدة ) والأنكى من ذلك انه الآن يحارب في صفوف الجنجويد. لم يخبرها بذلك بالطبع ولكنه اخبرها (إنه لا يعرف كيف يقتل انسانا، جنجويداً كان أم طورابورا، ولا يعرف كيف يساعد على ذلك، بل لا يشجع ذلك التوجه، وأنه ليس جندياً محترفاً، بل فرداً يؤدي الخدمة الوطنية مجبراً، ويُساق إلى ميدان المعركة كما تُساق النعاج إلى السلخانة). ( مسيح دارفور – ص 45).

ابراهيم خضر من جانبه نصح شيكيري توتو كوة بأن يتجنب العمة خريفية وابنتها. غير أن الأخير لم يصغ له فقد شغف بالأخيرة حباً. وبمرور الأيام صار شيكيري يعلم عبد الرحمن كيفية التعامل مع السلاح من تفكيك وتركيب وكانت تتعلم بسرعة بل أنها فجأته في الجمعة الرابعة بحصولها على بندقية جيم ثلاث، تحصلت عليها من احد افراد الجنجويد كان نائماً بالقرب من المطار حينما كانت تحتطب بالقرب من معسكر كُلُمة.

لم يصدق شيكيري رواية زوجته ( يعرف انها تكذب، لأنها لا يمكن أن تذهب لقطع الحطب ليلاً، ولا يمكنها أن تأخذ بندقية الجنجويد نهاراً، والشيء المهم هو أنها لا تذهب للاحتطاب مطلقاً، لأنها لا تحتاج إليه في المنزل، فلدى العمة خريفية موقد غاز حديث، ويعرف أيضاً أن النساء لا يخاطرن بالذهاب للاحتطاب في تلك المنطقة بالذات، خوفاً من أن يغتصبهن الجنجويد الذين يتواجدون بكثرة هناك، ويعرف أيضاً ان الاحتطاب في هذه الأيام لا يتم إلا في جماعات محمية من قوات الاتحاد الإفريقي). ( الرواية – ص 46 و 47).

بذات الفصل ( صيد الجن ) يحدثنا الأديب عبد العزيز بركة ساكن عن قوام مدينة نيالا محور احداث هذه الفصل ( نيالا مدينة كبيرة وجميلة، يسميها عمال الإغاثة الأوربيون لاس فيغاس دارفور، لا يعلم أحد عدد سكانها، إنهم في تزايد ونقصان مستمرين، وفقاً لسير حرب دارفور، يسكنها الضحايا المهجرين من قراهم معاً والقتلة الذين يرتكبون فعل التشريد والتهجير، بها أيضاً المواطنون الذين لا تعني لهم الحرب شيئاً ذا بال، وبها كبار التجار، وهم المستفيدون الوحيدون من الحرب، وقد تضاعفت أموالهم نتيجة للاحتكارات والمضاربات والندرة الفعلية والمفتعلة للسلع، بها الجنجويد). ( مسيح دارفور، ص 48).

وعند الحديث عن الجنوجيد يأتي التفصيل من قبل الراوي، فهؤلاء القوم ( يسكنون في الأحياء الطرفية من معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا،  وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، وهم عليها بملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة  للروح الانسانية، لا يفرقون مطلقاً ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، الكلاب الضالة مثلاً. وتعرفهم أيضاً بلغتهم الغريبة "الضجر" وهي عربي النيجر والصحراء الغربية، ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، وليس من بينهم مدني، ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير، أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم). (الرواية، ص 49).

تحس العمة خريفية تور جاموس بغريزتها الانثوية ان الأمور بين ابن اخيها وأبنتها لا تسير على ما يرام، إلى ان جاء ذلك اليوم الذي استيقظت فيه لم تجد عبد الرحمن فانتظرت عودتها لاعتقادها انها ذهبت في مشوار صباحي. ولما طال انتظار العمة ذهبت لغرفة عبد الرحمن ( كانت غرفتها مرتبة وكل شيء موجود في مكانه، وعندما انتبهت لحركة شيء ما في الأعلى، رأت حلقة كبيرة من التمائم مُدلاة من وسط القُطية، النوع الذي يرتديه الجنجويد، بها دم متخثر. بأعصاب باردة، أخرجت كل ما تراه مهماً من القُطية، احتفظت به في مكان آمن، ثم اشعلت فيها النيران). ( مسيح دارفور – ص 51).

ترتب على تلك الحادثة أن طرأت بعد التغيرات على العمة خريفية، من بينها أنها أصبحت قليلة الكلام. وترتب على تلك الحادثة أيضاً ولكن على صعيد الجانب الآخر أن ( أُستنفر كل الشرطيين بالمدينة، أُهملت كل الحراسات المدينة، جُنِّدَ ألف رجل من الاستخبارات العسكرية والأمن العام، اُستخدم مئات المدنيين كمخبرين مؤقتين وجواسيس يسعون بين الناس يخبرون عن الجميع، لا فرق بين أصدقائهم، جيرانهم أو ذويهم، استعانوا بالفكيان وضاربي الرمل، وضاربي الودع وبعض السحرة من قبيلة الداجو المعتصمين في أحد كهوف جبل أم كردوس شرق نيالا). ( الرواية – ص 52)

إضافة لكل الجهود للعثور على من قتل الجنجويدين، فقد كان هنالك ثمة تحذير شديد اللهجة من قائد الجنجويد الذي ( أقسم برأس أبيه ثم بالله، إذا لم تسلمه الحكومة قاتلهما أو قتلتهما، فإنه سيقتل عشوائياً، على الأقل مائتين من المواطنين، بسوق نيالا والشمس في قُبة السماء، لا فرق بين طفل ورجل وامرأة أو بنت عرب أو زرقة ولا أم خفير). ( مسيح دارفور – ص 53)

ولكن الجهود الحكومية تكللت بالنجاح قبل أن تجد المجزرة طريقها إلى سوق نيالا، فالقتلة رجلين من قبيلة المساليت ( كانا في غاية الإعياء من أثر الضرب، لدرجة أنه، عندما صعد على ظهريهما قائد الجنجويد، أبَّا جربيقا جُلباق، بعربته اللاندكروزر ذات الدفع السداسي، حديثة الصُنع، التي تزن خمسة أطنان بالإضافة لحمولتها من الدوشكا والحراس الأربعة الغاضبين، فإنهما لم يتألما كثيراً، ماتا بسهولة ويسر). (الرواية،ص53).


سكك الخطر :

تسلك الرواية الدرب الخامس منها، وبه نكون قد اجتزنا ثلث المسافة التي ستفضي بنا – نحن القراء – للموكب في آخر الرواية  حيث الفصل الخامس عشرة.  لكن لنسلك مع الراوي سكك الخطر أولاً، حيث يعيدنا الرواي إلى التقرير الذي يكتبه شيكيري توتو كوة عن رفيقه وصديقه إبراهيم خضر. ذلك التقرير الذي عجل باختيار السلطات الحكومية لهما الاثنين معاً لمرافقة القوة الخاصة التي ستزود الكتبيبة المرابطة على مشارف مدينة زالنجي بالوقود.

لكن حدث ما لم تتوقعه الجهات الحكومية فقد هوجم الجميع من الطورابورا التي نجحت في هزيمة الجيش الحكومي واستولت على حاملات الدوشكا وعطبت المدرعتين الخفيفتين واسرت الجند ومن بينهم كان الصديقين: شيكيري وابراهيم. كانوا عشرين اسيراً ، سُجلت بيناتهم وجُمع ما لديهم من أوراق ثبوتية قبل أن يتم ( قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: اثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرة من الجنود النظاميين، ثمانية من المجاهدين وحرس الحدود وهو الاسم الرسمي للجنجويد، في الحال، تم إعدام الجنجويد والمجاهدين، بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحاً، طالبين منهم في سُخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة، وهذه سُخرية مبالغ فيها، لأن الجنجويد لا يعرف شيئاً عن الجنة أو النار، يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه، لأن السياسين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يفصحون في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون أو لخوفهم منهم إذا فهوا). ( مسيح دارفور، ص56، 57)

هذا ما كان بشأن الجنجويد أما مجندي الخدمة الوطنية وهما ابراهيم وشيكيري فقد خيرا بين البقاء في السجن مع الجنود النظاميين أو الانضمام لصفوف الطورابورا، فأختارا الخيار الأخير، فكان على ابراهيم ان يطبخ ويحمل الاسلحة بينما عمد شيكيري إلى الانضمام لمقاتلي الطورابورا في الميدان، وكان الأخير دائم التفكير في زوجته عبد الرحمن وكثيراً ما حدث صديقه ابراهيم بهاجسه ( وماذا لو قُبِضَ عليها، بلاشك سوف يقتلونها بالطريقة التي تُعرف برقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، ويهربون من قُربها، فحتماً ستؤدي الرقصة المرعبة لبعض الوقت قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات ممزقاً ). ( الرواية – ص 59).

رغم ذلك ظل شيكيري ضمن مجموعة محاربي الطورابورا والتي كان قوامها ( من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزُرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السُود). (مسيح دارفور، ص 59).

في هذا الفصل نتعرف أكثر على شارون: قائد المعسكر الذي ينتمي لقرية ( ضُلاية) التي هاجمها الجيش الحكومي والجنجويد فأبيدت واستبيحت نساؤها وبناتها أما الرجال الذين لم تحصدهم الحرب فقد جردوا من كل اسلحتهم  حتى البيضاء وطلب منهم المشاركة في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين العصي والسياط  ( وكانوا يضعون كل عشرة من الرجال الدارفوريين، يسمونهم جهراً  وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي دولة النيجر موطنهم تعني العبيد). (الرواية – ص 61).

يخبرنا الراوي على لسان احد ابطال الحكاية وهو شارون نفسه بأن هنالك تناقص في عدد الدارفوريين من رجال القرية بفعل المقاومة.  بينما ( يظل الدافوري الليل كله في الدوريات مع فرقة من الجنجويد تتغير باستمرار، لتحل محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الدارفوريين حيث النساء والطفلات، تقوم باغتصابهن. يحدث هذا كل ليلة. وكل من يحتج منا يتم قتله. الآن بالقرية جيلٌ كاملٌ من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد وأمهاتهم من الدارفوريين). (مسيح دارفور – ص 62)

لا يتركنا شارون دون أن يزيد من جرعة الشجن شجاً حين يضيف في سخريةٍ ( والغريب في الأمر أن مسئولاً كبيراً في صُحبة بعثةٍ من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية، واعتبرت انموذجاً للتعايش الإداري السلمي ما بين الجنجويد والدارفوريين، وهو برهان لتكذيب كل الأقاويل والافتراءات الغربية التي تتحدث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وما يُسمى بجرائم الحرب واستحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أن أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قرية ضُلاية، ثم يضيف في يأس، لا يمكن أن تُحرر ضُلاية ما لم تُحرر دارفور كُلها ، لأنه تُحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد والجهاد في العالم). ( الرواية – ص 62)

إذن بهذا المعسكر اجتمع ثلاثة من ابطال حكاية مسيح دارفور: شارون، ابراهيم خضر وشيكيري توتو كوة. وطالما ورد اسم الاخير فقد كانت بانتظاره مفاجأة عندما التقط منظار الحرس فرساً على ظهره فارس يجتاز حقل الألغام في سرعة ويرفع بيرقاً أبيضاً وطلب الفارس مقابلة هارون وهو الاسم الحقيقي لشارون ( تَعَرف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته وأطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تماماً  عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توتو كُوة الأسير لديه). ( مسيح دارفور – ص64).

وهكذا اجتمع شمل ابطال الرواية الاربعة في المعسكر وانضمت عبد الرحمن للمقاتلات لتحارب في صفوفهن ( كانت هنالك تسعون امرأة أخريات، كلهن متزوجات من الجنود ما عدا مريم، التي يُطلق عليها شارون اسم مريم المجدلية، فهي تؤجل زواجها دائماً لحين تحرير دارفور أو ظهور السيد المسيح، أيهما أقرب). ( الرواية – ص 64).


الحرية وقرينتها:

في الفصل السادس من روايته ( مسيح دارفور) يحدثنا عبد العزيز بركة ساكن على لسان الرواي عن جدود ابراهيم خضر ابراهيم فيعيدينا لسيرة أسيانة هي سيرة العبودية في السودان والتي خصص لها السكرتير السابق للحزب الشيوعي السوداني الاستاذ محمد ابراهيم نقد، كتاباً من منتوجه الفكري حمل عنوان: ( علاقات الرق في المجتمع السوداني). اتمنى أن يوفقني الله سبحانه وتعالى بالتعرض لهذا الكتاب القيم.

لأن السيرة أسيانة - في نظري – فسوف أنصرف عن التعرض لهذا الفصل من الرواية الذي خصصه الأديب وبشيء من التفصيل لهذا الجزء غير المضيء من تاريخ السودان. غير أن الحادثة التي افتتحت بها هذا المقالات والتي تتجسد في اصرار التومة على الحصول على حريتها تبقي هي البقعة المضيئة في هذا التاريخ المظلم. نالت حريتها عنوة واقتداراً وسط تخوف غير من كانوا تحت نير الاسترقاق ومرد خوفهم كان أن المستعمر الانجليزي الذي اراد ان يعيد لهم حريتهم المسلوبة عبر القوانين الرادعة قد لا ينجح في مسعاه ( خاصة بعد مُذكرة السادة علي الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي في 6 مارس 1925إلى مدير المخابرات الإنجليزي التي طلبوا فيها من الحكومة الإنجليزية، إعادة النظر في الحرية الموهوبة للرق في السودان، بل استثناء الرقيق السوداني بالذات من الحرية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية، وتركهم عبيداً إلى أبد الآبدين، لأن ذلك أجدى لهم وأنفع). ( مسيح دارفور، ص 93).



الكلمة:  

في الفصل السابع من الرواية ينقلنا الرواي لصاحب اسم الرواية وأعني به ( مسيح دارفور ) ذاته. حيث كان يلقي على اسماع مريديه كلماته ( قال لتلاميذه: العالم أضيق قليلاً من أحلامكم وأكثر اتساعاً من أحلامكم، إنه  مثل شعلة النار التي تكمن في الشجرة، ومثل الشجرة التي تكمن في الصخرة، ومثل الصخرة التي في القلب: ثقيلة وملساء ولها بريق جذاب، تحروا الحقيقة فإنها مخادعة). ( الرواية – ص 104).

اتوقف ها هنا عن الحديث على أن أواصل الحلقة الرابعة بإذن الله من مقالاتي عن رواية ( مسيح دارفور ) للأديب السوداني عبد العزيز بركة ساكن. مستفتحاً المقالة الرابعة بالفصل الثامن من الرواية والذي حمل عنوان ( شيزوفرينيا المستلب).    

Comments