مسيح دارفور (2 – 5)


مسيح دارفور (2 – 5)


طِرّ:

بصيغة الأمر لفعل يطير عنون الاديب عبد العزيز بركة ساكن أولى فصول روايته ويبتدرها بالحديث عن القوة العسكرية التي قوامها ستة وستين جندياً  اضافة لفريقٍ  آخر احضر من ثلاثة مدن باقليم دارفور هي: نيالا، كاس وزالنجي وعلى حد تعبير الرواي فإن هذا الفريق الكبير قد تكون من: ( النجارين المهرة وشبه المهرة تم جلبهم بالقوة من نيالا وكاس وزالنجي. في الحقيقة كان هذا العدد كافياً جداً للقضاء على ثورة نبي كاذب كما تم وصفه من قبل القادة الميدانيين وبعض الساسة الضالعين في إطلاق الألقاب الجيدة، ) ( الرواية ص8)

            بالنسبة للنجارين فإن مهمتهم صنع صلبان عظيمة مثقلة بمسامير غليظة من الحديد الصلب كيما يصلب عليها مسيح دارفور والمؤمنات والمؤمنين به. أما مهمة القوة العسكرية فهي: القضاء على ذلك الذي يقول ( إنه المسيح، ليس متشبهاً به، وليس داعياً بدعوته، وليس أحد تلاميذته، ولا مريديه وليس المسيح الدجال ولا المهدي المنتظر، ولا برمبجيل، يقول إنه السيد المسيح بلحمه ودمه) ( الراوية ص9).

           اما (طِرّ) هذه فإن لها حادثة يوردها الراوي في الصفحتين التاسعة عشر والعشرين من الرواية ( وبينما كانوا مندهشين ينظرون، إذا به يرسم غراباً على الأرض، يضع الريشة في مكانها المناسب، بل الصحيح، تنمو بقية الرياش في أماكنها بالقرب من الريشة الأولى، تكتمل بنية الرياش، من ثم يظهر المنقار، القوائم، المخالب، إلى أن اكتمل الغراب، يبتسم، يسألهم:

- هل منكم من يستطيع أن يجعل هذا الغراب يطير؟

قال رجل من الأعراب اسمه حامد:

- لا أظن أن احدنا يستطيع ذلك

قال للغراب:

- طِرّ

فطار الغراب، حلق بعيداً، تقلب في الفضاء مستعرضاً جناحيه وسواد أرياشه) ( الرواية ص20،19). وجاءت الدهشة الثانية لمؤمني مسيح دارفور حينما انتهى مشهد الغراب الذي طار:

( وقال لهم:

أعدوا العدة للموكب.

وما كانوا حينها يدرون ما هو الموكب، ولكنهم أخذوا يعدون له العدة.

وقال لهم:

الموكب الموكب). ( مسيح دارفور – ص20)


النخاسون:

وهو العنوان الجانبي الثاني للرواية الذي يتحدث فيه عبد العزيز بركة ساكن عن فئتين من النخاسين (في23 نوفمبر 2003 حوالي الرابعة مساءً، عند نقطة تفتيش سوبا على مشارف الخرطوم، توقف الباص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان والزمان، ترجل السائق وفي معيته المضيف اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد  وبالأخرى يحمل قلماً أزرق ماركة بك، يرتدي بذلة سفاري رمادية). ( الرواية – ص 23). 

           أردت ان انقل الفقرة بأكملها دون حذف من عندي لأنها تحكي عن مشهد تكرر في مدن السودان – بإستثناء مدن جنوب السودان طبعاً – هذا المشهد – وإن اختلفت سيناريوهاته – كان يشغل حيزاً من حقبة منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة. وهو مشهد اصطياد المطلوبين لآداء الخدمة الوطنية من المركبات العامة أو في شكل حملات تباغت السابلة في الشوارع والأزقة وبعد ان يتم اداء فترة التدريب العسكري قد لا يلتحق مجند الخدمة الوطنية بالدوائر الحكومية لتمضية المتبقي من فترة الخدمة الوطنية الإلزامية ولكن قد يدفع به لأتون حرب الجنوب مدافعاً عن سياسات نظام البشير وفيما بعد صار مجند الخدمة الإلزامية يرفد الجيش النظامي والجنجويد في حرب دارفور أيضاً وهذا ما سيتعرض له الأديب في سياق روايته.

          كان ( ابراهيم خضر) برفقة اخته التي ستدرس بجامعة الخرطوم – حيث درس -  ليكمل لها اجراءات تسجيلها حينما اصطيد من المركبة العامة ليدفع به ضمن الجيش الحكومي المنتج لإحدى القرى الملحق بجبل (أم كردوس) لدحر مسيح دارفور، من نفس الحافلة اصطيد ( الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري توتو كوه. الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى انه لم يزرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين عندما اقلعت به طائرة البورش الروسية العجوز نحو ما لا يعلمون من البلاد لكنهم جميعاً كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد أن قضوا فترة التدريب على الأسلحة الثقيلة في الأربعين يوماً السابقة ). (مسيح دارفور – ص 25) 


         وكأني بهم وقد اقتيدوا من الحافلة لخيمة الخدمة الوطنية الإلزامية التي تنصب عادةً في الشوارع الرئيسية وفي اسواق المدن السودانية، وكأني بهم في هذا المشهد كأنما اصطادهم نخاس ليباعوا كعبيد يمتهنون مهنة الحرب.

         هذا ما كان بشأن الطائفة الأولى من النخاسين أما الطائفة الثانية فقد اشار إليها الضابط الذي كلف شيكيري بمراقبة ابراهيم حينما حدثه ( بأن أسرة ابراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل إن جدته المباشرة لها اسيادها الذين لولا الانجليز لكانوا لا يزالون تحت القيد، وأن جد إبراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا أنه ابن غير شرعي، لأن أمه ما ملكت أيمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه، كما أكدوا له شخص حاقد على الآخرين والمجتمع، لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية والجمهورية وغيرها). ( الرواية – ص 29)

         طالما ان الأحداث ساقتنا للفكر الجهوري والأخوان الجمهوريين، نترك الظابط يجري عملية مسح المخ لشيكيري ونعود لابراهيم أحد ابطال الرواية الذي يحدث صديقه شيكيري لاحقاً عن كيفية انضمامه لحزب الاستاذ محمود محمد طه: ( حكى له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فقط للضحك والشماته على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه أو يرمز إليه إبراهيم بالاستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة من المستهترين والجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر إليه – وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه – عرفت أنه على حق، وأننا جميعاً لسنا سوى القتلة. لم يعدمه القضاة ونميري وحدهما، ولكن أيضاً الذين لم يبذلوا جهد المقل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً، وإنساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سلطة مطلقة). ( الرواية ص 31)

        إذن ردة الفعل العنيفة جعلت من إبراهيم جمهورياً ولفائدة الخبر فإن مفردة الجبهجية الواردة في الفقرة أعلاه، هي التسمية السودانية لكوادر حزب الجبهة القومية الإسلامية ( تنظيم الأخوان المسلمين في السودان والذي كان يسمى بجبهة الميثاق الاسلامي في حقبة ستينيات القرن الماضي) والذي تزعمه دكتور حسن عبد الله الترابي إبان نظام مايو قبل ان تتحول التسمية مع نظام يونيو للمؤتمر الوطني، وكان للترابي الدور الكبير في الحملة التفكيرية الثانية للاستاذ محمود محمد طه التي انتهت بإعدامه بسجن كوبر واستتابه قيادات من الاخوان الجمهوريين حتى لا يتم اعدامهم مثله بتهمة الكفر، وهذا حديث آخر.

       ينتهي الفصل الثاني من الرواية بهواجس شيكيري الذي يشعر انه استخدم من قبل السلطة الحكومية لأغراض غير نزيهه وحينما يهم بأن يحدث ابراهيم بالمهمة التي كلفها به الضابط يحجم عن إكمال الحكاية فيظن ابراهيم ان شيكيري يستدرجه لسبر اغواره فلا يتجاوب معه في الحديث.



جنون الجسد:

        الفصل الثالث من الرواية يتحدث عن لقاء شيكيري عمته ( خريفية تور جاموس) التي جاء إلى بيتها ولم يجدها حيث كانت في سوق الجمعة تبيع التوابل. وهناك التقى بالفتاة العشرينية الفاتنة (عبد الرحمن) وكيف ان الشيطان اجاد لعبه في خلوتهما تلك وكان اللقاء حميماً. لتأتي اخته فجأة فيتداركا الموقف ولكنها تعي بغريزتها الأنثويه ما جرى:

( ود البُقُس. انت عرستِ عبد الرحمن؟

قال لها دون تردد وهو يحاول أن يخفي ما تعرى من جسده.

نعم، عرستها يا أمي. ) ( مسيح دارفور – ص 40)


صيد الجن:  

         الفصل الرابع من الرواية يبتدي بسيرة اسيانة فعبد الرحمن اخيراً احست بالسعادة تغزو قبلها ونسيت الآلامها نسيت ذكريات الحرب التي افقدتها ابويها وإخوانها وشردت اختها حتى انتهى بها التشرد لاجئة بجمهورية تشاد. كما انها ( نسيت تجربة الاغتصاب الأولى يوم المعركة، نسيت الثانية، الثالثة، والرابعة بمعسكر كُلُمة، أو ربما تناست ذلك بمحض إرادتها، المهم ، يبدو في ظاهر الأمر أن عبد الرحمن أرادت أن تغلق صفحة من حياتها وللأبد، ولا يدري أحدٌ لماذا لم تنسى اسمها أيضاً، فقد كان بإمكانها فعل ذلك في أيه مرحلة من حياتها). ( الرواية ص – 42 و43).

        بذكر الاسم يحدثنا الرواي عن حادثة عقد القرآن فيعيد الابتسامة إلى شفاهنا – نحن القراء – بل وربما يجعلنا نضحك بعد جرعة الشجن أعلاه. ( عقد المأذون على ابن اخيها وابنتها، بالرغم من أن المأذون والمصلين جميعاً قد احتجوا على أن تُسمى العروس باسم عبد الرحمن، الشي الذي يجعل قسيمة الزواج كما لو كانت شهادةٍ لزواجٍ مثلي، وهذا غير مسموح  به في القانون والشريعة، وأصرت عبد الرحمن على الاسم حتى لو يبطل الزواج، رافضة اسم مريم الذي اقترحه عليها المأذون، إلى أن جادت قريحة أحد المصلين الحريص على إتمام مراسيم زواج بنتٍ نازحةٍ متشردةٍ لعسكري غريب أي آفتين اجتماعيتين لا خير منهما يُرجى. أن تُكتب في القسيمة كلمة السيدة ثم يليها الاسم مضافاً إليه نون وتاء أي أن تصبح السيدة عبد الرحمانة، وعبد الرحمانة اسم شائع في قرى دارفور، فرضي المأذون ولم تمانع عبد الرحمن). ( مسيح دارفور – ص 43 و 44)

       

       بعد أيام من الزواج يلاحظ  شيكيري أن زوجته ليست بالمرأة الطبيعية لأنها حدثته بأمرٍ عجباً، سأحدثكم به عزيزاتي واعزائي القراء - إن شاء الله -  في الجزء الثالث من المقال واستميحكم العذر بأنه لن يكون الجزء الثالث والأخير، فقد احتاج لحلقة رابعة وربما خامسة كي اكمل حكايتي عن رواية ( مسيح دارفور).


Comments