فنجان قهوة في حضرتها



فنجان قهوة في حضرتها

إلي عازه المنا ..


قالت لي وسط رهط من الزميلات والزملاء بالجمعية السودانية لحماية البيئة، إنه لا شيء يربطها بأمدرمان سوي أنها درست الجامعة بها. ولولا ذلك لما أعارتها اهتماماً ، فكان لابد من أن أرد علي تلك الخرطومية ولو بعد حين.

أشرت للبورتريهات بمكتب مجدي آدم: (أغلب هؤلاء الأعلام من أم درمان: فاطمة أحمد إبراهيم ، علي المك ، علي عبد القيوم ، سعاد إبراهيم أحمد ، العميري ، .. الخ.(
فقالت لي: (إن الأخير مات في الطريق وامدرمان لم تهتم لذلك الأمر)

تسألينني عن مدينتي ، لن أستعير تعبير بشري الفاضل في رائعته ( البنت التي طارت عصافيرها )  وأستبدل ابن المقفع بعلي وأبادرك بأن: (اسألي علي المك) لأن علي عاش في أم درمان أيام مدها ،وقد عاصرتها أيام جذرها عندما أصبحت أم رماد ! .

عازه أنت لم تمارسي التسكع في أزقة حي موسكو أو العباسية ولم تمري بحي الملازمين أو حي سوق الشجرة ذات أصيل شتوي ، لم تعبري حي ود اللدر ذات خريف إلي بحر أبروف - وهو تسمية أهل حي ابروف للنيل الأبيض عندما يمر من امام الحي !! - . هل صادفت شروق شمس هناك .. يا الله تخالينها قد استحمت فيه ،خارجةً لتوها من أمواه النهر كيما تجفف اشعتها.

انك لم تعرجي علي الإذاعة ليلاً وتستمعي إلي برامجها في هدأة الليل: شريط الذكريات لحمزة مصطفي الشفيع ، نجوم بعيدة لنجيب نور الدين و من المكتبة السودانية، و.. و... . ولم تجدي الليمونة واقفة في فناء كافتيريا المسرح القومي فتجالسينها وبالك مع رفع ستار المشهد الأول .

وأنت لم تصلين الظهر بجامع النيلين فتنظرين باعجاب لقبته التي زخرف منمناتها انامل مبدعين جاءوا من المغرب، لعلهم من مدينة فأس التي ليس وراءها ناس – كما يقول مثلنا الشعبي – ولم تصلي الجمعة بجامع أم درمان العتيق حينما كان سقفه عتيقاً تتراص فيه حزم الحصير وأعواد الخشب لتشكل سقفه البلدي..

السوق يا عازة وما أدراك ما السوق ، إنك لم تمري بشارع العدني ذات صباح باكر فترين جمعاً من الشعب السوداني مختلف السحنات واللهجات والديانات يحتسون القهوة والشاي والفرنساوي أمام قهوة خلف الله الكرسني. تنظرين إلي السحنات المختلفة ترتقين ببصرك نحو اليافطة ، فتبسمين وعيناك تقرأ تأسيس هذه القهوة فتجديها في أربعينيات القرن الماضي.

عازة أنت لم تعبري شارع الكنيسة يوم أحد فتصغين للترانيم شجية الألحان وناقوس اجراس ماري جرجس يسري عبر أزقة المسالمة وحي العرب  

ولم تأت حي (ود أرو) مستطبة عند بت بتي – قيل أن لها نعامة كانت تربيها في بيتها فتعجبين من مهارة زينب بت بتي في مداواة إصابات العظام وتعيد ارجاع المفاصل وعلاج التهابات الاعصاب ، أما الكسور فتحيلها بكل طيبة نفس إلي اخصائي العظام لعله دكتور الشفيع.

هل سعدت بضياعك في متاهة حي الركابية أوزريبة الكاشف هل ابتهجت لفقدانك الطريق بحي الموردة فتعيد لنقطة البداية لتسألين إحدى كبار الحي فتجدين نفسك امام محل ( عم توتو ) الترزي غير بعيد من شارع الموردة. هل تصدقين سعادة اثر ضياع في حي شعبي !! .

هل قرأت لعلي المك أو أصغيت لفاطمة ؟ هل خشعت لشعر المتفرد علي عبد القيوم أو الرائع عمر الدوش ؟ هل اطلعت علي كتب منصور خالد فاعجبت بها رغم إختلافي سياسياً معه واختلافك كذلك.. لكنه من ابناء هذه المدينة على كل حال.

هل أشجتك ألحان برعي محمد دفع الله ويمناها ممسكة باوتار العود. هل طربت لمقطوعة (القمر في كنانة) بشير عباس أو اعجبت بألحانه التي تغنت بها فرقة البلابل؟ هل أطربتك قفشات علي أبو الجود في دار الرياضة حتى صفقت من فرط الضحك ؟ ثم هل مارست هواية مطالعة عناوين الكتب وتصفحت بطونها تجادلت في سعرها مع باعة الكتب بميدان البوسته بالقرب من ناصية لوكانده ليزا؟ أظنك فعلت .



هل تابعت يا عازه أسبوع المرأة بجامعة الأحفاد ؟ نصف عمرك ضاع ! وهل زرت حلقات الذكر وبالأخص حلقة البرهانية في بساحة المولد حيث ميدان خليفة المهدي عبد الله ود تورشين التعايشي؟ نصف عمرك الآخر ضاع !
هل سمعت بقصة الشيخ قريب الله عندما أتاه صوت كرومة (يا ليل أبقالي شاهد علي نار حبي وجنوني) . فما كان من الشيخ الورع إلا أن طلب من إحدى مريديه أن يسرع في طلب كرومة فلما اتاه لدهشة المريدين لم يعظه بترك الغناء وإنما طلب من كرومة ان يسمعه الأغنية فشق كرومة هدأت الليل وهو يشدو برائعة الشاعر صالح عبد السيد ( أبو صلاح) : يا ليل أبقالي شاهد .. على نار حبي وجنوني

والأزقة .. الأزقة لها طعم الليمون البارد في نهارات الصيف وعطر أزهار النيم ورائحة المطر إرهاصات بالحضرة والخير تمرين من خلالها ومعك أحد العارفين فيشير إلي أحد البيوت قائلاً: دا بيت السيدة عزيزة منديل التي انشد فيها الشاعر سيد عبد العزيز( ظبية المسالمة وفي الخمائل حالمة !!). ثم يؤمي إلي بيت ثانٍ: (وداك بيت القال فيها عبد الرحمن الريح: ( لي في المسالمة غزال .. نافر بغني عليهو).

وبعد حين يلقي بك الزقاق إلي زقاق آخر ، فترين سبابه مرافقك تنتهي عند بيت علي مرمي حجر منك فتعرف من محدثك أنه كان بيت تلك التي خرجت من بيتها لتمارس إحدي واجباتها المنزلية (تسكب ماء الغسيل بالشارع) – ثم توارت تلك الفاتنة سريعاً قبل ان تراها العيون بعد أن أدت مهمتها كعادة فتيات الزمان الجميل .

لكن الشعراء كانوا لها بالمرصاد ثلاثة شعراء لكل واحد منهم الثلث في القصيدة (بعض الروايات تشير إلي أنهما شاعران وليس ثلاثة) المهم أنهم كانوا يأتون شارعها كل يوم يرغبون في نظرة منها فقط نظرة . وكانت القصيدة:
حاول يخفي نفسو وهل يخفي القمر في سماهو
أبداً طبعاً لا ... لا شفناهو .... شفناهو

إنها أم درمان البيئة التي نشأ فيها كل هؤلاء وغيرهم وغيرهم . أما صلاح أحمد ابراهيم فالحديث عنه يطول مثله مثل خالد الكد.
أم درمان .. حيث المكان عبقري والزمان كذلك .. وبنات أم درمان أمر آخر إنهن بنكهة القهوة رائعات ... رائعات .. رائعات .

وتقولين أن عبد العزيز العميري مات في نصف الطريق ولم تعر أم درمان ذلك الأمر اهتمامها ربما كان ادعاؤك صحيحاً! فقد مات معاوية نور - الذي نعاه العقاد - مجنزراً رغم أنه كان بكامل قواه العقلية والنفسية، ومات التجاني يوسف بشير وهو يعاني السل ومات خالد الكد في حادث سير  ببلاد الإنجليز ... كلهم من أبنائها وكلهم ماتوا في قمة مجدهم .

لكنها أم درمان امرأة تحتفل بكل مولود لها .. لكنها لا تمشي في جنازته .. عفواً لقد اتشحت بالسواد عند رحيل علي المك. أنها أم درمان ... أم درمان يا عازه وكفي:


لا عشت يوماً لا تعانقني به نبضات قلبك
أو ذقت شيئاً لا تعطر كأسه انسام حبك
أو همت في دنيا خيالٍ لا يمتعني بقربك
والله لو شقت يمينك مهجتي ما قلت حسبك

هامش:
أبيات الشعر للشاعر الأردني مصباح العابودي من قصيدته (صلاة)



مزمل الباقر
الخرطوم 2001م

Comments