عن المسألة التعليمية بالسودان
عن المسألة التعليمية بالسودان
-
من يشاهد إعلانات المدارس الخاصة على شاشات فضائيتنا
السودانية يعتقد أن نسبة الأمية تراجت لنسبة واحد بالمئة (1%) وربما على طريقة
نظام الخرطوم ( مزقنا فاتورة الأمية). ولكن رجل الشارع العادي يدرك أن التعليم
اصبح شكلاً جديداً من اشكال النشاط الاقتصادي الطفيلي ونوعاً مستحدثاً للثراء
الفاحش.
-
التعليم الآن بالسودان هو
تعليم للأغنياء فمقابل الرسوم الدراسية الباهضة يضمن أولياء الأمور مدارس خمسة
نجوم لابنائهم وبناتهم ( الزي المدرسي والكتب الدراسية مجاناً، يوجد اساتذة اكفاء،
يوجد ترحيل، تدريس اللغة الإنجليزية برياض الاطفال الملحقة بالمدرسة و...و.. الخ
.. الخ)
-
اما ابناء الطبقة الوسطى اقصد الطبقة تحت حد الفقر
ويمكننا ان نلحق بها الطبقة الفقيرة حيث لا توجد طبقة وسطى ببلادي.. على ابناء غير
الأغنياء الالتحاق بالمدراس الحكومية التي لا تجد حرجاً من طرد الطالب/ة من داخل
الفصل الدراسي اثناء الحصة المدرسية إذا لم ينجح في سداد كامل الرسوم الدراسية،
وبعض المدراس الحكومية تجد من الرأفة ترك الطالب/ ة الذي لم يتمكن اولياء اموره من
تسديد الرسوم الدراسية ان يترك ليدرس ولكن نفس هذا الطالب أو هذه الطالبة سيفاجئ
بعد سهر الليالي في الاستذكار للامتحان انه سيحرم من الجلوس للامتحان منذ الورقة
الأولى للسبب المتعلق بالرسوم الدراسية غير المكتملة او غير المدفوعة أصلاً.
-
حتى بدايات تسعينات القرن الماضي كانت بالمدراس الحكومية
وقبل ان تنتشر تقليعة ( موضة ) المدارس الخاصة هذه، كانت هنالك نشاطات لتلاميذ
المدارس الوسطى والثانوية: جمعية الفلاحة المدرسية، جمعية الموسيقى والجمعيات
المتعلقة بالمواد الدراسية مثل جمعية اللغة الإنجليزية وجمعية الجغرافية وغيرها. وهنالك
نشاط مسرحي يجرى كل يوم خميس يسمى الجمعية الأدبية يقدم فيه التلاميذ والتلميذات ابداعاتهم على
خشبة المسرح المدرسي.
-
في بدايات العقد الأول من الألفية الثالثة استبدل الحال
فأصبحت هذه الفعاليات نشاطات ترفيهية هي من شأن المدارس الخاصة – بالتأكيد لكل
قاعدة شواذ فيما يتعلق بالمدراس الحكومية – لكنني اتحدث عن الغالب الأعم. فبينما
تتنافس المدارس الخاصة في اجتذاب أولياء الأمور بعروض تحاكي عروض شركات الاتصالات
حيث هنالك مدارس تعلن ان بالمدرسة برامج رياضية يستطيع التلميذ/ة ان يتعلم رياضة
جديدة خلال دراسته وهنالك مدارس اخرى تعلن عن حصص لتعليم الموسيقى وتجتذب نفس هذه المدراس
الخاصة الاساتذة المجيدين بعروضها المالية المغرية لتحدث فراغ كبيراً في المدراس
الحكومية التي تدفع للمعلمين مراتب الحكومة التي لا تكفي لإعاشة أسرة نووية تتكون
من زوجين وطفل أو طفلة دع عنك المدرسين الذين يعولون اسر ممتدة.
-
تلجأ المدراس الحكومية لسد الفراغ الذي اشرت إليه في الفقرة السابقة بأن تدفع بخريجي
الجامعات السودانية الذي حرموا من استلام شهادة التخرج ( بكالوريوس ) حتى يكملوا
الخدمة الإلزامية التي تكون عبارة عن تدريب عسكري لشهرين وباقي السنة عمل في
القطاع العام فيحظى التعليم بنسبة كبيرة لسد الفراغ الذي يحدثه هجرة الاساتذة
المجيدين من المدارس الحكومية إلى الخاصة أو الاغتراب لتدريس أبناء وبنات الاشقاء
العرب بالمدراس التي تقع خارج خارطة ( الوطن العزيز) وذلك في هجرة البحث عن زيادة
الدخل والثراء. وفي الأغلب – أم تكن القاعدة – أن هؤلاء الخريجين لم يخضعوا لبرنامج تدريبي يتعلمون مناهج التدريس.
-
قلصت سنوات الدراسة قبل الجامعية من إثني عشرة سنة إلى
إحدى عشرة سنة، لتغير السلم التعليمي في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي،
من ثلاثة مراحل: مرحلة ابتدائية بسنواتها الست، ثلاثة سنوات لإكمال المرحلة
المتوسطة وثلاث سنوات اخرى لإكمال الدراسة الثانوية قبل الجلوس لامتحان الشهادة
السودانية ومن ثم الالتحاق بأحدى الجامعات إلى مرحلتين هما: مرحلة الاساس بثمان
سنوات ومرحلة الدراسية الثانوية بثلاثة سنوات
-
أدى هذا التغيير في السلم التعليمي لالحاق ايفاع
بالجامعات يكملون ما تبقى من طفولتهم بباحة الجامعات وهو جيل مستلب فكرياً نشأ على
فضائيات عربية تقدم ثقافات اخرى غير ثقافته السودانية وهذه ليست مشكلة الفضائيات
وإنما مشكلة الفضائيات السودانية التي صارت منفرة للمشاهد/ة.
-
وهو جيل لم يمارس ألعاب الاطفال الجماعية التي كانت تدور
خارج البيت بمشاركة اطفال الجيران مثل لعبة (شليل) لانه جيل يقضي معظم طفولته
جالساً امام التلفاز يتابع قنوات الاطفال التي تقدم العاب هي من صميم بيئاتها
فينشأ جيل غير معني تماماً بثراته السوداني وينظر إليه بشيء من التأفف.
-
وشب نفس هذا الجيل على مواقع التواصل الاجتماعي التي
تجذبه بعيداً جداً عن الاطلاع في بطون امهات الكتب أو متابعة جديد الاخبار والعلوم
– نعم لكل قاعدة شواذ لكنني اتحدث في هذا المقال عن الغالب الأعم – مما يجعل هذه
الاجيال التي ترعرت في كنف النظام الحالي هي صلصال خام جاهز للتشكيل وفق ما يعبئه
به الإعلام الحكومي فنجد ان معظمه ابتهج لإنفصال الجنوب عن الشمال وانطلت على
غالبيته احداث هجليج بالرواية الرسمية وبذات القدر اعجب ببسالة الجيش السوداني في
استرداده لأبكرشولا واعجب اكثر بعزة نفس النظام حينما أحكم إغلاق صمام أنبوب النفط
السوداني القادم من آبار الجنوب، فهذه نوع من انواع الرجولة التي توصف بها قبيلة
معينة في السودان تجعل عموم الشعب السوداني ينتسب لهذه القبيلة بطريقة أو بأخرى
ولأن رأس النظام ينتمي لهذه القبيلة في إن قراره الحاسم في شأن المسألة النفطية هو
من باب الرجولة وهذا حديث آخر.
-
اعود مجدداً للمسألة التعليمية لاتحدث عن مدارس حكومية
تقع في اطراف اطراف العاصمة المثلثة نتعدم فيها اساسيات التعليم من توفير الكتاب
المدرسي مما يجعل التلاميذ والتلميذات يتشاركون في الكتاب ولو انتقلنا لخارج
العاصمة القومية لازالت هنالك مدارس يجلس ابناءها وبناتها تحت ظل شجرة والسبورة
معلق على احدى اغصانها والتلاميذ يفترشون الثرى حيث تفتقر بعض المدارس في الألفية
الثالثة لكل البنى التحتية للمدرسة !!!.
-
تطور المنهج المدرسي ولكنني اتحفظ على كلمة تطور بمعناها
الايجابي فالمنهج الدراسي الحالي – على سبيل المثال لا الحصر - يدرس التلاميذ مادة
العلوم العسكرية التي تعرف التلميذ/ة بالرتب العسكرية !!!. وماذا يعني إن وجدت
عسكري علي كتفيه (اسبليطة) بها ثلاثة ( دبابير) اي ثلاثة نجوم أو آخر يرتدي البزة
العسكرية على كتفيه اسبليطة بها صقر الجديان مثلاً!!.
-
اتصدقون ان مناهجنا الدراسية تهيئة التلميذ/ة للاهتمام
بالعلوم العسكرية في زمن اتجه فيه كل العالم لتفعيل ثقافة السلام والتعايش مع
الآخر واحترام التنوم الثقافي والعرقي والديني!!.
-
هذا الابتزال في المناهج الدراسية – إن جاز لي التعبير -
مضافاً إليه عامل غياب الاستاذ المؤهل
والاستاذة المجيدة أدى لتفريغ الاجيال التي اشرت إليها في فقرة سابقة وتنشئة غير
معنية بالألعاب السودانية في فقرة اسبق. افرز اجيال جديدة غير معنية تماماً بالشأن
السوداني، رغم انها هي التي يناط بها النهوض برجل افريقيا المريض ( السودان ) من
كهوف الإنسان الأول لدنيا تعلي من شأن التعليم.
-
وبعد .. كل الفقرات السابقة تتحدث عن غيض من فيض المسألة
التعليمية في تسعيينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثالثة وتداعياتها
على المتلقي ( التلميذ والتلميذة).. ورغم ايماني الكامل بأن هنالك ثمة بصيص نور في
آخر هذا السرداب المسود ، غير أن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم إلى أين تفضي كل
هذه السياسات الخرقاء وإلى أين يتجه هذا السودان.
مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 14يونيو2013م
Comments