عن ما جرى للشيوعيين في عهد النميري-قراءة في كتاب حسن الجزولي:عنف البادية
عن ما جرى للشيوعيين في عهد النميري
قراءة في كتاب حسن الجزولي : عنف البادية (*)
شاء الله سبحانه وتعالى ان يقع في يدي بمحض
الصدفة كتاب الدكتور حسن الجزولي والذي عنونه ب: (عنف البادية: وقائع الأيام
الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب). بتقدمه للراحل المقيم بروفسير محمد سعيد
القدال. الكتاب يقع في 349 صفحة من القطع المتوسط وقد صدر في طبعة اولى انيقة في
العام 2006 عن : منشورات مدارك. فيما قام بتصميم الغلاف الفنان المبدع : الياس فتح
الرحمن.
الكتاب قسم إلى اثني عشر فصلاً بدأ ب:(مطارد
من المهد إلى اللحد) وانتهاءاً ب:(أزيز المشنقة: كلمة السلطة أم كلمة التاريخ؟)
وقد الحق بالكتاب محلقاً لصور نادرة بالأسود الأبيض لبعض الشخصيات التي تعرض لها
الكاتب اثناء سرده الشيق. وتزين الكتاب بمقدمة تحمل عنوان: كتابة شاقة وشائقة.
للمؤرخ بروفسير محمد سعيد القدال فضلاً عن اهداء الكاتب.
يقول حسن الجزولي في الغلاف الخلفي لكتابه: (
لا يدعي هذا العمل انه سيرة حياة لرجل، في قامة عبد الخالق محجوب عثمان، فتلك مهمة
عسيرة قد تحتاج لجهود فريق من المتخصصين في هذا الحقل) وبذات الاتجاه لا ادعي ان
حديثي عن هذا العمل هو ضرب من النقد الأدبي الذي لست احد فرسانه على كل حال. ولكن
هو بعض ما عنا لي واعتمل في صدري بعد ان فرغت للتوء من قراءته فرأيت ان أؤانسكم
ونفسي بقراءة على هوامشه.
انتهج الكاتب في صياغة هذا العمل الأسلوب
العلمي ( لم يخف الكاتب انفعاله بالرحيل المأسوي، لقائد فريد تم اغتياله، ولكنه
سعى بجهد أكاديمي ليستوفي مختلف جوانبه، فاطلع على أغلب ما كتب عن تلك الفترة
الكالحة، واتصل بأغلب الشخصيات الأحياء الذين عاصروها، ورجع إلى بعض الوثائق التي
توفرت مؤخراً، فأزاح الغموض عن القضايا، وترك بعضها يكتنفها الغموض. وأثار مواضيع
جديدة تحتاج للمزيد من التقصي، ومن هنا جاء الجانب الشائق من هذه الدراسة) هذا بعض
ما اورده بروفسير القدال في مقدمته عن الكتاب.
الكاتب وان خص كتابه بالحديث عن الاستاذ عبد
الخالق بل وعنون العمل بمقولة له في وصف ملابسات تآمر بعض الاحزاب على الحزب
الشيوعي بأنه: ( عنف البادية)، قلت رغم ان حسن الجزولي خص كتابه بالحديث عن وقائع
الأيام الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب غير انه لمقتضيات البحث آثر ان يولي
اهتمامه: ( لثلاثة ايام فقط من عمر الرجل، هي، بالتحديد، عمر انقلاب 19 يوليو
1971م في السودان، مع الاعتبار الكافي، بطبيعة الحال، لما سبقها من أحداث مهدت لما
انتهت إليه، وما تلاها من تداعيات تشكلت بأثرها، بقدر ما يلزم لإضاءتها وإجلاء ما
قد يكون غامضاً من تفاصيلها.) (حسن الجزولي - عنف البادية.ص15).
مقتطفات من عنف البادية
بقي ان اشير قبل ان القي مزيداً من الضوء على
هذا العمل القيم، ان الكاتب في سبيل انتهاجه للبحث العلمي في حديثه عن هذه الأيام
الثلاث والتي كما وصفها استاذنا محمد سعيد القدال: ( لم يحدث ان تمت منازلة حركة
سياسية بمثل ذلك العنف الدموي في تاريخ السودان الحديث، إلا حركة الإمام المهدي
بعد هزيمتها في معركة كرري م1998 وحركة 1924م. وكان العنف في كل من الحالتين قد تم
على يد الإدارة البريطانية. أما نميري والذين تعاونوا معه في تنفيذ المذابح التي
وقعت في معسكر المدرعات في الشجرة بالخرطوم، فهم أول سودانيين يبتدرون العنف
الدموي في معترك السياسة السودانية. وكان عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ
وجوزيف قرنق أول سودانيين مدنيين يعدمون في السودان تاريخه الحديث) ( القدال- كوبر
ص42).
لابد ان اشير – كما ذكرت – ان الجزولي في
سبيل انتهاجه طرق البحث - في كتابه محور حديثنا - قد استعان في استدعاء تلكم
الأيام بإفادات شخصية لمن عاصروا تلك الفترة وكانوا قريبين من محور الاحداث. كما
انه رفد كتابه هذا بكتب ومقالات إلكترونية وغير إلكترونية تحدثت عن تلك الفترة
التي القت بظلالها على حاضر ولعل مستقبل الحياة السياسية في السودان سواء بحدوده
التي ورثها من المستعمر ام بحدوده الحالية التي اضطر ان يشغلها نظراً لسياسات
خاطئة.
يفترض الجزولي في الفصل الأول من كتابه –
والذي عنونه ب( مطارد من المهد إلى اللحد) ان الاستاذ عبد الخالق ظل مطارداً من
مهده حتى لحده ويستدل في فرضيته بعدد من البراهين، اوجزها في هذه القصاصات التي
لملمتها من طيات الفصل الأول، فالكاتب يرى ان الشخصية محور الكتاب خبرت ( الملاحقة
والاعتقال منذ أن كان في (المهد السياسي) بمصر، حتى أصيب بالسل الرئوي وهو بعد شاب
غض الاهاب في مقتبل دراسته الجامعية) (عنف البادية – ص 17).
وبعد عودته للسودان يصبح اسم عبد الخالق
محجوب مدرجاً في مضابط الإدارة البريطانية ( كزعيم سياسي ذوميول يسارية وعمره لم
يتعد الثانية والعشرين بعد، مما اضطره للاختفاء فترة من الزمن) ( الجزولي – الكتاب
ص 17).
ويواصل حسن الجزولي في ذات الفصل ( وخلال
فترة الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق ابراهيم عبود ( نوفمبر 1958م – اكتوبر
1964م) تعرض عبد الخالق للاعتقال مرات عديدة بحراسات كوبر وزالنجي وغيرهما من سجون
البلاد. وفي عام 1959م قدم مع بعض رفاقه إلى محكمة عسكرية فيما سمي وقتها ( بقضية
الشيوعية الكبرى) وتحت ما سمي ( بقانون النشاط الهدام ) ( الجزولي – الكتاب ص 17).
وقبل ان ينتقل بنا الكاتب لفترة حكم النميري
نجد ان الفريق عبود قد نفى عبد الخالق ضمن عدد من زعماء المعارضة لجوبا في مطلع
الستينات. ( وما كاد ينقضى أقل من عام على انقلاب 25مايو عام1969م بقيادة
البكباشي، وقتها، جعفر نميري، حتى أعادت السلطة ( التقدمية) نفي عبد الخالق إلى
مصر، هذه المرة، في طائرة واحدة مع الصادق المهدي، وذلك لموقفه وموقف الحزب
الشيوعي المعارض لضرب الانصار في الجزيرة أبا وودنوباوي عام 1970م.) (عنف
البادية،ص 18).
ولكن بعد عودة عبد الخالق وتعهد النميري بعدم
التعرض له مجدداً، تم اعتقاله بعد ان وطئت قدماه مطار الخرطوم لينقل وفي معيته
الشفيع ونقد إلى مزرعة ما بمنطقة الباقير - على تخوم ولاية الخرطوم - حيث تم
التحفظ على ثلاثتهم، قبل ان تندلع مظاهرات جماهيرية واسعة تشجب هذا المسلك وتطالب
بالافراج عنهم، غير ان اعتقال نظام النميري لعبد الخالق محجوب تواصل وتعددت اشكال
النفي حتى انتهى الأمر بتصفيته جسدياً مشنوقاً بسجن كوبر اثر محاكمة هزيلة تطعن
كثيراً في نزاهة القضاء السوداني وتفتح الباب على مصراعية بعد سنوات من هذه
الاحداث إلى ارتماء النميري وصحبه في احضان التيار المتأسلم في شكل جبهة الميثاق
الاسلامي ويقود الهوس الديني نميري بعد اكثر من عشرة اعوام على تصفية عبد الخالق
إلى تصفية الاستاذ محمود محمد طه وذاك حديث آخر.
تحت عنوان ( جذور الصراع) يمضي بنا حسن
الجزولي في فصله الثاني إلى عدد من السنوات قبل انقلاب هاشم العطا ليعيدنا للعام
1965م. حيث شهد ذلك العام حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان
وملاحقة قادته على تداعيات ندوة معهد المعلمين. ورغم ان مولانا بابكر عوض الله
رئيس القضاء آنذاك قد أصدر قراراً من المحكمة العليا ببطلان قرار الحل. إلا ان
المتواجدين بالمبنى صوتوا لطرد نواب الحزب الشيوعي من قبة برلمانه، مما ترتب على
ذلك تقديم مولانا بابكر عوض الله لاستقالته.
في داخل اروقة الحزب الشيوعي كان ردة الفعل
عنيفة نوعاً ما، حيث انقسم في مؤتمره الرابع إلى فريقين احدهما فريق عبد الخالق
الذي كان يرى الالتزام بالخط الماركسي والتعويل على حركة الجماهير لاحداث التغيير
الديمقراطي المطلوب فيما رأي الفريق الآخر الزج بخيار عسكري يقضي باستعادة مفاهيم
ثورة اكتوبر ودارت مساجلات عبر صحيفة الايام بدأه احمد سليمان المحامي عضو اللجنة
المركزية – والذي يمثل التيار الآخر - حيث رأى الأخير انه لابد من أن تعزز ثورة
اكتوبر وتحمى من قبل القوات المسلحة السودانية.
عبر صحيفة ( اخبار الأسبوع ) رد عبد الخالق
محجوب بمقال على حديث احمد سليمان، أوضح فيه عبد الخالق، الموقف الثابت للحزب
الشيوعي من اشراك الجيش في حكومة الوحدة الوطنية واعتبره تجاهلاً لتجربة الشعب
السوداني. وهو ما اوضحه - عبد الخالق نفسه - في ندوة سياسية اقامها بدائرته
الانتخابية بإحدى ميادين حي بانت جنوب بامدرمان بتاريخ 19 مايو 1969م : ( ولعله من
الواجب ان أؤكد هنا ان حزبنا الصامد يرفض أي مغامرة عسكرية طائشة للتغيير تستغل
فيها البرجوازية الصغيرة معاناة شعبنا لتتسلق إلى الحكم تحت عناوين تعرف سلفاً
انها زائلة قبل ان تستوعبها جماهيرنا) (بابكر حسن مكي، النميري .. الإمام
والروليت- اسرار 16سنة من حكم المشير للسودان – ص 36).
اترك
الفقرة السابقة والتي اقتبس فيها حسن الجزولي من كتاب بابكر حسن مكي بعض من حديث
عبد الخالق في ندوته تلك، ونمضي للعام 1970م حيث تفاقم الصراع وتطور إلى حدوث شرخ
في جسد الحزب الشيوعي ونتج عن ذلك الشرخ انشقاق فريق من كوادره وكان الخلاف يدور
حول مشاركة الحزب في حكومة مايو فيما رأى غالبية اعضاء المؤتمر الرابع عدم الزج
بالحزب في حكومة عسكرية تنكرت للشعارات الماركسية التي تبنتها في 25 مايو 1969م
وهو الرأي الذي ذهب إليه عبد الخالق ومعظم اعضاء اللجنة المركزية. كان الرأي الآخر
الذي تبناه معاوية سورج يرى غير ذلك ( أما معاوية سورج فقد ركز مساهمته على انتقاد
عبد الخالق، واصفاً نشاطه قبل مايو باليمينية. وقال إن عبد الخالق سعى في تلك
الفترة لإقامة تحالف سري مع الصادق المهدي ومع قطاع من الأخوان المسلمين وجماعة
وليم قرنق من خلف ظهر الحزب) ( عنف البادية، ص39_40)
يمضى
الكتاب ليحدثنا عن ان الصراع بين الحزب و( جناح معاوية) قد تفاقم بعد ان تكتل جناح
معاوية بتشجيع من السلطة وبدأ ينتهج نشاطاً تنظيمياً وفكرياً معادياً للحزب ودعى
لتكوين مركز بديل للمركز الرسمي للحزب بل انه بدأ في تحضير للمؤتمر الخامس. وفي
حين سعى الحزب إلى احتواء هذا الصراع، اصر (حناح معاوية) على موقفة المعادي للحزب
( فلم يترك للجنة المركزية من خيار آخر غير أن تصدر قراراً بفصل جميع العناصر
المتكتلة والخارجة على الشرعية الحزبية وأن تعلن ذلك في بيان) ( عنف البادية – ص
41).
تداعيات
المواجهة هو عنوان الفصل الثاني، وهو يتحدث عن عزل النميري لثلاثة من اعضاء مجلس
قيادة الثورة هم: المقدم بابكر النور والرائدين هاشم العطا وفاروق حمد الله بتاريخ
16 نوفمبر 1970م ويعزي السبب للخلاف ( الناشب أصلاً بين الحزب وبين قيادة مايو حول
الانقلاب نفسه، وحول كثير من السياسات التي تربت عليه، كالموقف من قضية الحريات،
ومن استقلال الحزب، ومن ميثاق طرابس في ديسمبر 1969، ومن ضرب الأنصار في ود نوباوي
والجزيرة أبا في مارس – أبريل 1970م، ومن قرارات التأميم والمصادرة في 25 مايو من
نفس السنة، وغيرها من الأحداث. ضف إلى ذلك الخلاف الذي نشب داخل مجلس قيادة الثورة
هو اسلوب اتخاذ القرار، ولعل ابرز محطاته الباكرة موقف الأعضاء الثلاثة من إقدام
نميري، بعد أشهر قلائل من الانقلاب، على ابرام ميثاق طرابس مع عبد الناصر
والقذافي، دون الرجوع لمجلس الثورة. وهو الموقف الأقرب لموقف الشيوعيين الذين رأوا
في ذلك الميثاق"تجاوزاً لخصوصية التشكيل العرقي للسودان"، كما رأو فيه
انفراداً من نميري باتخاذ القرارات المصيرية الخطيرة دون استشارة أعضاء المجلس
الآخرين) ( محمود محمد قلندر؛ سنوات نميري، مركز عبد الكريم ميرغني، الخرطوم
2005م، ص 148).
اتجاه
مايو نحو الفكر القومي العربي الناصري بدأ واضحاً لوجود مولانا بابكر عوض الله على
رأس اللجنة التنفيذية لحكومة مايو، إضافة لبعض النافذين داخل وخارج منظومة الجيش
من امثال محمد عبد الحليم والطاهر عوض الله وغيرهم. هذا الاتجاه افرغ مايو من فكرة
( الجبهة الديمقراطية) التي قامت عليها مبادئ الانقلاب. ( من جهة اخرى كان لابد
للصراع الذي انفجر داخل الحزب قبل وبعد انقلاب مايو، ان يجد تعبيراً عنه، بصورة او
باخرى، داخل تنظيم الضباط الأحرار في الجيش، والذي كان يفترض ( جدارته )، حسب
طبيعة الاشياء) ( عنف البادية-47).
ويرى حسن الجزولي ان الافتراض السابق وجد
المقاومة من داخل مجلس قيادة الثورة بل وأدى ( إلى لجوء القوميين العرب في المجلس
والجيش لتكوين تنظيم آخر مناوئ لتنظيم الضباط الأحرار باسم ( احرار مايو )!) ( عنف
البادية – ص47).
وشهدت
تلك الفترة تملماً في الجيش وبدأت ديكتاتورية نميري في الظهور على سطح الواقع
السياسي السوداني وترتب على ذلك اقدام الرائد هاشم العطا على استقالته من الجيش
ومجلس قيادة الثورة عقب احداث الجزيرة أبا، لكن النميري رفض استقالته ويرى حسن
الجزولي ان اقصاء هؤلاء الثلاثة ( بابكر، هاشم وفاروق) من مجلس قيادة الثورة أدى
إلى اضعاف أداء المجلس نظراً لافتقار بقية عضويته إلى الوعي السياسي والفكري.
غير أن نفس الفترة شهدت صراعاً آخر ولكن هذا
المرة داخل اورقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكانت مادة الخلاف حول مشاركة
الحزب في الاتحاد الاشتراكي الذي جاء على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر الناصرية
ومن ثم تتيح لمصر ممارسة سياسة الأخ الأكبر على الشأن السوداني ( ظهر للجميع أن
قيادة الحزب الشيوعي السوداني نفسه منشقة على نفسها إلى فريقين، فريق يؤيد الأجندة
المصرية، ويقوده أحمد سليمان وفاروق أبو عيسى ومعاوية ابراهيم، وفريق يعارضها بقيادة عبد الخالق محجوب والزعيم النقابي الشفيع أحمد الشيخ والقائدة
النسائية فاطمة أحمد ابراهيم بالإضافة إلى التجاني الطيب ومحمد ابراهيم نقد وجوزيف
قرنق). ( عنف البادية- ص 51)
ورغم ان فريق عبد الخالق يضم شخصية لها تأثيرها
وهو الشفيع احمد الشيخ ، فبالإضافة لقوة الشخصية فإن الشفيع هو الرجل الثاني في
الحزب الشيوعي وهو سكرتير اتحاد عام عمال السودان وهو نائب سكرتير اتحاد عام عمال
العالم، كما انه الحائز على وسام لينين ووسام النيلين.
بالرغم من أن عبد الخالق والشفيع ومعظم
قيادات الحزب واعضاء لجنته المركزية عارضوا مشاركة الحزب في الاتحاد الاشتراكي ، إلا
ان فريق أحمد سليمان فاز بالتصويت وترتب على ذلك دخول عدد من الشيوعيين في حكومة
مايو من بينهم: المحاميان فاروق ابو عيسى، جوزيف قرنق.
غير أن لحسن الجزولي رأي آخر فهو يرى الاسباب
الجوهرية التي أدت للقطيعة بين الحزب الشيوعي ونظام مايو جاء اثر النقاش الحاد
الذي دار بين هاشم العطا ونميري في إحدى اجتماعات مجلس قيادة الثورة حول موافقة
نميري على اتفاقية طرابس دون الرجوع للشعب السوداني. ونظراً لاختلاف وجهة نظر هاشم
العطا ونميري وتأييد بابكر النور وفاروق حمد الله لهاشم العطا ترتب على ذلك اقصاء الاعضاء
الثلاثة من مجلس قيادة الثورة بل ومطاردة واعتقال كوادر الحزب الشيوعي وعلى رأسهم
– قطعاً - السكرتير السياسي للحزب.
ما تبقى من صفحات هذا الفصل تحدثنا عن تدهور
صحة عبد الخالق محجوب عقب اعتقاله في السجن الحربي القديم بأمدرمان، مما ادى لنقله
إلى لمصنع الذخيرة بمنطقة الشجرة بالخرطوم ليلحق بزميله المعتقل دكتور عز الدين
على عامر.
لازالت الاحداث تترى في شهر نوفمبر 1970م حيث
حظر على جميع القوات النظامية المتواجدة داخل مصنع الزخيرة عدم التعامل او التحدث
إلى المعتقل السياسي عبد الخالق محجوب، غير ان شخصية عبد الخالق وحضوره فرضت على
مجموعات الحرس والحكمدارت مخالفة الاموار وشيئاً فشيئاً تحول تبادل التحايا من على
البعد بين السجين والحرس إلى حديث مقتضب حتى انتهى الأمر إلى التفاف مجموعات الحرس
يومياً حول السجين - الذي لقبوه بالاستاذ – في الامسيات للمؤانسة بحديثه وقفشاته.
هذا التطور على الصعيد الانساني سهل فيما بعد على بعض صف الضباط والجنود الشيوعيين
بسلاح الذخيرة تهريب عبد الخالق خارج المصنع قبل ايام معدودة من انقلاب هاشم
العطا.
بحسه الأدبي يصيغ
حسن الجزولي الفصل الأخير في كتابه متحدثاً عن الفصل الأخير في حياة عبد الخالق محجوب
بدأ من اختبائه بحي ابوروف الأمدرماني وانتهاءاً بإعدامه في سجن كوبر الشهير بحي كوبر
بمدينة الخرطوم بحري وما بين الحدثين يسرد الجزولي كثيراً من الاحداث المحزنة والمؤلمة
في نفس الوقت، صاغها بكلمات أسيانة.
انطباعات حول الكتاب
تعرض حسن الجزولي للصراعات داخل أروقة الحزب
الشيوعي السوداني والانقسامات التي تعرض لها بدأ بانقسام جناح معاوية سورج مروراً
باشتراك بعض اعضاء اللجنة المركزية في نظام مايو مثل فاروق ابو عيسى المحامي
وجوزيف قرنق المحامي ثم يدلف بنا الكاتب لانقلاب الرائد هاشم العطا بكل حيثياته
حتى قيام الانقلاب المضاد وعودة نميري للحكم ومطاردته للكوادر الشيوعية واقامة
للمحاكمات بل واقدامه لاقامة المشانق لعدد من القيادات من بينهم عبد الخالق محجوب
نفسه.
بكل صفحات هذا الكتاب - محور حديثي - ظلت
شخصية عبد الخالق تهوم وتجوس بين طياته، كيف لا وهو موضوع الكتاب واستعان حسن
الجزولي في سرده بعدد من الافادات لشخصيات عاصرت الاحداث وتارة لجأ لآثارهم من كتب
مطبوعة او كتابات أثيرية بعدد من المواقع الإلكترونية او من بعض ما نشر في بعض
الصحف المحلية والعالمية.
لكن رغم الجهد الذي بذله الكاتب مستعيناً
بأسلوب البحث العلمي غير اني ارى ان بعض الروايات كانت من جانب واحد وهو الجانب
الشيوعي – نسبة للحزب الشيوعي السوداني - مثل افادات العريف عثمان عبد القادر الذي تحدث
عن كيفية قيامه بتهريب عبد الخالق محجوب من مصنع الزخيرة وافادات دكتور محمد محجوب
واستاذة سعاد ابراهيم احمد، وإذا نظرنا للجانب الآخر - جانب السلطة - نجد ان
افادات مأمون عوض ابو زيد للكاتب عن حيثيات اعتقال عبد الخالق واعدامه، شغلت حيزاً
محدوداً من صفحات الكتاب وتظل بعض الافادات تحتاج لابراز الراي الآخر لاستعراض كل
جوانب الحدث مثل مذكرات الرائد معاش: زين العابدين محمد احمد والتي صدر في العام
الماضي عن مركز محمد عمر بشير تحت عنوان: (مايو، سنوات الخصب والجدب) وكذلك افادات
القيادات السياسية في الاحزاب الاخرى التي عاصرت تلك الفترة.
بمعنى آخر إذا سلمت جدلاً بمقولة ابن خلدون
في مقدمته الشهيرة والتي رأى فيها : (آفة التاريخ هم الرواة) نجد ان بعد المصادر
التاريخية التي استعان بها حسن الجزولي هي
في بعض الأحيان عبارة عن رواة عرضة لآفة النسيان أو التأثر بما يطرأ على الراوي
نفسه من تبدل في الآراء والأفكار والمواقف وهذا قد ينطبق على نحو بعيد على إفادات
العريف عثمان الكودة على سبيل المثال أو مستدلاً ببعض صفحات كتابه( الحزب الشيوعي
والمؤامرة الفاشلة في 19 يوليو) لذلك فإن تعدد الروايات وتنوعها لاستعراض الرأي
والرأي الآخر ربما تثري المادة التاريخية لهذا الكتاب.
وهذا التأثر قد ألقى بظلاله أيضاً على الكاتب
ولعل اصدق ما يمكن ان استشهد به ها هنا بعض ما خطه بروفسير محمد سعيد القدال في
مقدمته عن الكتاب محور هذا المقال حيث يقول: ( لم يخف الكاتب انفعاله بالرحيل
المأساوي، لقائد فريد تم اغتياله).
أما حسن الجزولي فيحدث عن عمله القيم فيقول:
( لا يدعي هذا العمل انه سيرة حياة لرجل، في قامة عبد الخالق محجوب عثمان، فتلك
مهمة عسيرة قد تحتاج لجهود فريق من المتخصصين في هذا الحقل. ولذا فقد أولى هذا
الكتاب اهتمامه لثلاثة أيام فقط من عمر الرجل، هي بالتحديد عمر انقلاب 19 يوليو
عام 1971م في السودان مع الاعتبار الكافي بطبيعة الحال لما سبقها من احداث مهدت
لما انتهت إليه، وما تلاها من تداعيات تشكلت بأثرها، بقدر ما يلزم لإضاءتها وإجلاء
ما قد يكون غامضاً من تفاصيلها).
وبعد .. فهذا ما عنا لي بعد اطلاعي على هذا
الكتاب الذي جاءت مادته التاريخية نتيجة لجهد مقدر للكاتب والذي استعان بكل وسائل
الاتصال والتواصل للرجوع للشخصيات التي عاصرت الأحداث حتى يخرج هذا العمل كعادة
الأكاديميين في اتجاه البحث العلمي. هذا غير متابعته لكثير مما تمخضت عنه المطابع
من كتب ومقالات صحفية بصحف محلية وأخرى عالمية تحدثت عن تلكم الفترة المهمة من
تاريخ السودان المعاصر.
إضافة لملحق الصور عن عدد من الشخصيات التي
تعرض لها حسن الجزولي في كتابه بالحديث عنها، ليجد ( عنف البادية – وقائع الأيام
الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب) مكانه في المكتبة السودانية مجاوراً لكتب اخرى
قيمة مثل كتابيّ استاذنا محمد سعيد القدال ( معالم في تاريخ الحزب الشيوعي
السوداني) و( كوبر) وغيرها من الكتب التي
تعرضت لتاريخ الحزب الشيوعي السوداني ولبعض قادته مثل الاستاذ عبد الخالق محجوب.
واجدني اختم هذا المقال بما كتبه محمد سعيد القدال في صدر مقدمة الكتاب ( أهم ما
في الكتاب انه، وللمرة الأولى جمع الروايات التي كانت متداولة على صعيد واحد، فجاء
وثيقة تاريخية " لعنف البادية " المنفلت).
مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 24 سبتمبر 2012م
(*) نشرت بموقع الحوار المتمدن-العدد:3985بتاريخ27يناير2013م
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=342940 نشر المقال بعدد 31 يناير 2013 بموقع جريدة البداية المصرية. وذلك على الرابط التالي
http://www.albedaiah.com/taxonomy/term/7852
Comments