عن ( نفير: حملة الناس للناس ) .. تقرير شبه مفصل عن زيارة ( جبرونا)


عن ( نفير: حملة الناس للناس )
تقرير شبه مفصل عن زيارة ( جبرونا)


رغم أن كلمة ( نفير ) هي من قاموس الدارجية السودانية متعدد اللهجات تعدد سحنات وألوان ولكنات وديانات ابناءه.. غير أن كلمة (نفير) هي من الكلمات التي تواضعت عليها واتفقت معظم بيئات السودان وذلك لأن الكلمة تدل على واقع تعيشه تلك البيئات في الكوارث الطارئة ( وخصوصاً البيئات الريفية منها ) فكلمة (نفير) تقابل معنى مبادرة أو حملة تطوعية يتنادى إليها أهالي المنطقة لنجدة ومد يد العون  لآخرين من ابناء منطقتهم تضرروا بكارثة عظيمة او حقيرة افترضتها ظروف طارئة. 

أعادت (حملة مبادرة نفير) هذه العادة التاريخية من جديد لسطح الأحداث ولكل مهتم بالشأن السوداني لكن هذه المرة عمدت إلى النفير بشكل أكثر حداثة وعصرية مستعينة بصفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي الأشهر: فيسبوك لتستنفر الجميع لعون متضرري السيول والأمطار لخريف هذا العام بالسودان فتداعى إليها المعجبين وشرعوا في الضغط على زر ( أعجبني).

ولكن لنعود للبداية حيث بدأت نفير عملها في الثاني من أغسطس الجاري بولاية الخرطوم واتخذت من مركز جسر بحي العمارات شارع 37 مقراً لها تستقبل فيه التبرعات والمتطوعين ( الذين ظل عددهم يتزايد كل يوم حتى وصل إلى 5350 متطوعاً يوم كتابة هذا التقرير ) ( التقرير الإعلامي اليومي لحملة (نفير) 14 أغسطس 2013م ). 


خاطرة تطوعي الأول بنفير:
جئت شارعهم فذهلت للعدد المهول من الشابات والشباب ( ما شاء الله) .. رأيت عربتي التبرع بالدم فقلت في نفسي لعلها كلية جامعية جديدة دعوا هاتين العربتين كي يتبرع ابناء الكلية الجامعية بدماء شابة قوية.. ولكن الوصف نفس وصف صفحتهم الفيسبوكية: الخرطوم ش 37 غرب مستشفى الأطباء. سألت صاحب بقالة مجاورة: دا محل ناس جسر؟ اجابني باسماً: أيوه .. ارتقيت السلم وقلبي يخفق بعد ان اختلطت مشاعره ما بين الدهشة، الاعجاب والفرح.

من شارع 37 إلى ( جبرونا ) وبالعكس
-         في صبيحة الجمعة 30 اغسطس 2013م بعد ان غادر الموكب مقر منظمة جسر بحي العمارات الخرطومي سالكاً عدداً من شوارع المدينة قبل ان يدخل على المدينة التانية من مدن العاصمة المثلثة ( الخرطوم). وهي مدينة امدرمان ولكن عربات الموكب اعتلت جسراً آخر لا يفضي لأحياءها القديمة وإنما يفضي لمحلية ابو سعد وليدخل موكب حملة مبادرة نفير بعد ساعات لمضارب ضاحية أمبده بمدينة امدرمان ثم انتهى إلى إحدى اطرافها حيث امبده الحارة (44) او ما تواضع أهلها على تسميتها بكلمة ( جبرونا) أي اجبرنا ( بضم الألف).. والحارة تقع إلى جهة الجنوب من جبال كرري بأمدرمان.

-         ترجل الموكب من ظهور السيارات ليبدأ اليوم الصحي توزعنا (متطوعي حملة مبادرة نفير من الجنسين) إلى صفين أو جسرين أو لعلها سلسلتين (جنزيرين) متبادلين الأدوية والأمصال والمعدات الطبية عبر الأيدي من العربات التي تحملها إلى غرف (مركز صحي امبده الحارة 44 ) لتنتقل كل هذه الأشياء في إنسياب مثل انسياب نهر النيل العظيم بعد إنحساره وانقضاء فصل الخريف لكنها مفعمة بعنفوان الشباب كأمواج مشجعي فريق كروي يؤازره فريقه داخل الملعب. بعد ان اكتملت المؤونة من الأدوية والمعدات الطبية شرع معظم الحضور في استخدام الكاميرات لأخذ صور تذكارية لهذه الاحتفالية. كنا بداخل مركز صحي امبده الحارة 44 وقبالتنا يجلس رهط من اهل المنطقة تحت (صيوان) يتظللون به من هجير الشمس منتظرين دورهم في تلقي العلاج


-         بعد ان تركنا متطوعي نفير  من الحقل الصحي ( اطباء، صيادلة، معامل ) في داخل المركز الصحي. صاح فينا احد متطوعي نفير وهو قائد مجموعة هذا اليوم بأن: نفير .. نفير ، فأجتمعنا على هذه الكلمة وتحلقنا حوله ومن ثم تم توزيعنا على مجموعات من الجنسين وارتقينا عربة نقل بداخلها ادوات اليوم البيئي( معاول، عربات صغيرة لنقل الأوساخ والنفايات .. الخ الخ ). 

-         نزلنا بمنطقة سوق الحي وتناقلنا الكمامات والقفازات في ما بيننا وشرعنا في النظافة ولحق بنا رجل خمسيني من أهل الحي حاملاً بيديه (الكرك) ناولنا احدهما واحتفظ بالآخر ليستخدمه في جر الأوساخ قبل ان نودعها في اكياس بلاستيكية، وقبل ان تفرغ حملتنا الصحية كادت الشمس ان تميل في قبة المساء .. فغلبنا التعب والارهاق وتوزعنا تحت ظلال الحوائط والاشجار فإذا بسكان الحي يتهافتون علينا من بيتهم المتواضعة  بموائد الاطعمة والشاي والماء البارد لنشاركهم طعام الغداء خارج بيوتهم وبجوار المسجد الرئيسي للحي. 

-         عدنا من جديد لإكمال ما بدأنا من حملة النظافة فلما نالت الطمانينة منا الكثير ورضينا بما بدأ عليه مصرف المياه من خلو الاوساخ. انتقلنا لردم بركة مياه آسنة وتوزعنا نبحث عن مكان لنجلب منه ما يفيدنا في ردم تلك البركة من جنس الرمل او التراب فإذا بأحد السيدات في العقد الستيني من العمر تدعى خديجة تفاجئنا بأن تشير علينا ان نهد ما تبقى من الحائط الطيني لغرفة لها كي نستخدم لبناته الطينية في  ردم البركة وغابت هننية وعادت بدلو  بها ماء بارد لنروي طمأنا ثم غابت مرة ثالثة لتعود بمعول ثم غافلتنا ودفعت بالعربة الصغيرة ذات الاطار الواحد ( الدرداقة ) التي اتخمت باللبنات المهترئة قبل ان يدركها احدنا ويمسك بالعربة الصغيرة ليجرها امامه شاكراً اياها  

-         اسعفتنا شاحنة عظيمة بارتال الرمل الأحمر فتجمهرنا مرة أخرى ( متطوعي حملة مبادرة نفير من الجنسين ) واجتمعنا في منتصف البركة تماماً بعد ان ارتقينا كوماً عظيماً للرمل الأحمر وشرعنا في توزيعه على جنابات البركة مستخدمين آلياتنا من المعاول غيرها. 

-         بعد ان عادت الشاحنة العظيمة من جديد برتل أعظم من الرمل الأحمر عدنا من جديد بكل عنفوان الشباب وشرعنا في توزيعه تاره اخرى ولأن كميه المياه كانت كبيرة.. فنادى احد متطوعي نفير صبية الحي طالباً منهم إحضار دلو بلاستيكي كبير ( جركانة ) أو بحجم أقل ( باغة ) واستجاب عدد من الصبية واندفعوا في جنبات الحي وعادوا من بيوتهم بعد قليل بالدلي ليشكل متطوعي نفير من الجنسين جسرين متقابلين . ليقوم من يجاور البركة بغرف الماء في الدلي وتتناول ايدي الجسرين الدلي وتتبادل الحناجر التغني بأغاني سودانية رائجة لتصل آخر متطوعي الذي يقوم برش الماء الآسن على الارض كي تجفف شمس ما بعد الظهر. وكما يحدث عادة نظرت حولي فرأيت عدداً من شباب الحي يكلمون سلسلتنا التطوعية التي تتناقل اياديها دلو الماء الآسن. وكالعادة التقطنا عدسات الكاميرات والهواتف النقالة لتوثق لتلك الملحمة التي غابت عنها الموسيقى التصويرية.

-         بعد ان فرعنا من مهمتنا تحلقنا فوق المكان الذي كانت قبل ساعات بركة للماء الآسن وشرعنا في التغني بأغنية قديمة هي ( بلاد النور) رائعة الشاعر والمسرحي عادل ابراهيم محمد خير التي قام بتلحينها الموسيقار عثمان النور  واجادتها حنجرة الفنانة حنان النيل وتحديداً المقطع الذي وردت به كلمة (نفير): 

صبرك لو طال ما باقى كثير يابلادى
وجعتنا البيك تبقالنا (نفير) يا بلادى
من ذاتك ناخذ الوفاء ونشيل
من ذاتك ناخذ الوفاء
والشمس هدفنا وماها بعيد
يابلاد النور يا راس الخير
لابد يوم باكر يبقى أخير

-         - ثم اتجه عدد من متطوعي نفير مصفقين ومرددين هتاف نفير والحلقة البشرية التي تحيط بهم تشاركهم ترديد الهتاف  وانطلقت زغاريد عدداً من المتطوعات فألهبت حماس الجميع ليردد النشيد بملء حناجرهم:    

يلاك معانا نفير
نمشي ونقول تعمير
ونميد ليد الخير
وكمان نساعد الغير


-         في رحلة العودة من امدرمان إلى الخرطوم تعالت هتافات متطوعي حملة مبادرة نفير في كل الشوارع التي طرقها موكبهم كشوارع: ( دنقلا )، ( كرور)، ( المهندسين) قبل أن يعتلي الكوبري الجديد لضاحية أبو سعد متجاوزاً شارع الغابة ليعتلي نفق جامعة السودان قبل ان يمر بميدان جاكسون ثم يمر بحي ( الخرطوم 3) ليدلف للحي الانيق:حي الخرطوم (2) ليمر بحديقتي ( اشراقة التجاني يوسف بشير، حديقة أحمد خير المحامي) وبمطعم أوزون ليدخل الموكب حي العمارات سالكاً شارع محمد نجيب حتى ينتهي لتقاطعه من شارع 35متجاوزاً تقاطعه مع شارع الملك عبد العزيز حتى ينتهي لشارع 37 حيث المحطة الأخيرة للرحلة. وعندما اكتمل عقد الركب في أول المساء ترجل متطوعي اليوم الصحي عن العربات ومن جديد تشاركت حناجرهم الهتاف والمقاطع الأولى من اغنية بلاد النور مثلما تتشارك نقل المعونات من وإلى المخزن عبر سلسلة من الايدي التي لازالت تشعرني أن ( البلد لسه بخير).


رغم ما اصاب متطوعو اليوم الصحي بأمبده الحارة(44) من ارتال التعب والرهق والإجهاد غير ان جميعهم وكذلك أهل الحي  قد امتلأت صدورهم بهجة  وسيداخل الفخر افئدة كل من شارك في النفير من ابناء الحي ومن متطوعي المبادرة عندما يتذكرون ما جرى من احداث في يوم الجمعة 30 أغسطس 2013م بعد سنوات من الآن بعد ان نجحوا جميعهم في تحقيق مقولة المبادرة نفسها (نفير حملة الناس للناس). 


مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 31 اغسطس 2013م

Comments