سنعود بعد قليل .. دراما الوجع السوري ( 3 – 3)


سنعود بعد قليل .. دراما الوجع السوري ( 3 – 3)

   

    امي تنتمي لتلك الأجيال التي شغفت بالدراما المصرية واللبنانية التي كانت تعرض عبر شاشة تلفزيون السودان القومي بامدرمان وكثيرا ما عبرت لي عن اعجابها بذلك المسلسل اللبناني الذي تمثل فيه الفنانة سميرة توفيق دور نجود، بينما يمثل الفنان محمود سعيد دور فارس.

    وانا انتمي لتلك الأجيال الجديدة – مقارنة بجيل أمي – الأجيال التي تربت على ابداعات استاذنا اسامة انور عكاشة عبر ( الشهد والدموع) و( ليالي الحلمية) وغيرها. ثم تبهر عندما يشاهد أوائل الأعمال السورية التي بثها تلفزيون السودان في منتصف تسعينيات القرن الماضي من شاكلة( الطبية)، (الدغري) و(شبكة العنكبوت) ثم يعلق بذهني دور حاتم علي بشخصية (نذير) الشاب الذي يتجه لإدمان المخدرات بسبب ضغوطات الحياة. لأكتشف لاحقاً انني امام مخرج اكثر ابداعاً من خلال متابعتي العام الماضي لمسلسله الضخم ( عمر ).

    ومع مرور السنوات صارت متابعتي للدراما السورية مسألة حتمية كلما تسنى لي ذلك لأكتشف انني في حضرة الابداع مجسداً وان الحالة الإبداعية للدراما السورية هي ما جرت عليه العادة ولكن رغم ذلك من بين كل ما شاهدت لم استطعت ان اتمالك نفسي وانا اتشاهد هذا العمل ( سنعود بعد قليل ) ربما لموضوعه فوجدتني أكتب عنه انطباعاتي كمشاهد.


عن الحلقة الأخيرة:

كانت مثل فيضان نهر النيل العظيم في فصل الخريف أو كثمالة كأس من خمر معتقة. أرادا ( رافي وهبي والليث حجو ) ان يحقنا جمهور المشاهدين بجرعات زائدة من الشجن في مسك ختام ( سنعود بعد قليل ).

فعندما طلبت ( ميرا ) من ( يوسف دينا ) دليل آخر على انه  ليس من السلفيين أو الأصوليين وهو يهم بتوديعها  - قبل عودته من بيروت لحمص لإكمال آخر مشهد من فيلمه – اقترح عليها يوسف دينا ان يهديها هدية ستكون آخر دليل على عدم انتمائه لتلكم الجماعات فأخرج لها سلساه من عنقه وطوق بها كفها الأيسر لنكتشف – نحن المشاهدين – مع ميرا ان بالسلسال صليب فضي صغير فتملأ عينا ميرا بالدمع.

وعندما يستيقظ العم نجيب بالكنيسة – بعد ان ودعته صديقته اللبنانية ( تقلا شمعون فرج الله) – يستيقظ العم نجيب فيتفاجأ بوجوده وسط جوقة من ترانيم المصلين فما كان منه إلا وأن رفع كفيه أمام وجهه وشرع في تلاوة فاتحة القرآن الكريم وعلى خلفية هذه الأحداث – منذ وداع ميرا ليوسف دينا وحتى وجود العم نجيب بالكنيسة – كانت خلفية كل تلك الاحداث الشجية الصوت الملائكي الفيروزي الذي ينتمي لجارة القمر السيدة نهاد حداد وهي تغرد بمكان ما بأغنية : يا مريم


وتتصاعد نسبة جرعة الشجن في دمائنا – نحن المشاهدين – في مشهد وفاة العم نجيب الذي ينجح في اقناع الممرضة بأن تشغل له جهاز التلفاز لأنه يود ان يستمع لبعض الأغاني ولكن يتنقل بين المحطات الفضائية حتى يستقر به المقام في قناة فضائية تبتع للآلة الإعلامية السورية، تعرض احد السوريين الذي يدعي انه ابتاع الاسلحة ليسلمها للإرهابيين حتى يقتلوا بها الأبرياء العزل  فيتفاعل مع الحدث ويزاد سعاله وحينما يهم بالضغط على الزر كي تدركه الممرضة تفلت يده ويتسقط. وتقلنا كاميرا المبدع الليث حجو خارج غرفة العم نجيب لنجد تغزل شالاً وهي بكرسي متحرك. فيخرج العم نجيب من غرفته بالمشفى بكامل زيه فيتفاجأ بوجود صديقته اللبنانية وبعد محادثة قصيرة بينهما تطلب منه ان يجلس على الكرسي المتحرك وتلف الشال حول عنقه وتأخده عبر ممر بالمتشفى فنكتشف انه البرزخ ليفضي هذا الممر لحواري دمشق ببيوتها الآجرية وتدفق امواها بالبحرة في صحن الدار وتضوع اريج زهرات الياسمين بين جنباتها فلعل دمشق هي الجنة أو لعل الطريق إلى الجنة بمر عبر حواريها. 


ثمة ملاحظات:


وبعد ..


-         العلاقة بين سوريا ولبنان .. كما العلاقة بمصر والسودان.. تقزمها ساستهم وتفسدها السياسة باعتبار انها لعبة ، قذرة كما تقول الحكمة وليست فن الممكن كما تعرف في الكتب. ولكن شعوب البلدين المتجاورين تنهض بهذه العلاقات من جديد فهي علاقات تاريخية ولذلك فههي بشكلها الشعبي تظل وطيدة. فالبنسبة للعلاقة  بين سوريا ولبنان – من واقع المسلسل محور المقال – تتأرجح بين تأييد نظام بشار من قبل اللجنة المركزية لحزب ( الزعيم ) بينما يرى صاحب الجرح أو ( سيد الوجعة ) – على حد تعبير لهجتي السودانية – وأعني بصاحب الجرح ها هنا ( سامي نجيب ) السوري الميلاد واللبناني الجنسية الذي يرى ان  رؤية الحزب الجديدة لابد أن تنحاز للحراك الشعبي السوري بدلاً عن الوقوف بجانب نظام بشار. بينما شعبياً هنالك تعاطف كبير مع الراهن السورية يمثلها في هذا العمل : (سائق التاكسي الذي أقل العم نجيب من محطة الوصول للبنان إلى داخل بيروت) على سبيل المثال.


-         يعني العمل بالجانب الإنساني للراهن السوري بعيداً عن جوقة السياسة ويعرض بشكل درامي تشرذم الشعب السوري إلى ثلاثة فرق: فرقة أولى تصغي للآلة الإعلامية الرسمية لنظام بشار فيؤيده ( سائق التاكسي الذي أقل العم نجيب من دمشق حتى حدود لبنان) ونموذج ثائر على نظام بشار، ويرى ان الحل لابد أن يكون عسكرياً:  مثل شخصية أبو الليل ( محمد حداقي)، أوسياسياً  مثل ( سامي نجيب )، الفرقة الثالثة في منزلة بين المنزلتين – بتعبير المعتزلة – وهؤلاء يمثلهم فؤاد ( قصي خولي) ، وغيرهم.   



-         يتعرض العمل للمثقف السوري وتنازعه بين من يعتقد في إمكانية عودة نظام بشار لجادة الصواب وتحقيق مطالب الشعب ( العم نجيب )، او تتسم موافقهم بالضبابية ( راجي )، ( كريم) أو من يناجز النظام، كحال عامل البناء ( جمال العلي) أو من يحاربه بأدوات
أخرى غير رفع السلاح في وجهة فيكون كمن يلجأ لحلول سياسية مثل تسخير يوسف دنيا ( جابر جو خدار ) لفنه في خدمة القضية السورية.


-         كما ان الإعلام بتأرجح داخل سوريا بين مؤيد للنظام ( الإعلام الرسمي ) وآخر معارض يستخدم في إيصال رسالته مواقف التواصل الاجتماعي. تتأرجح النظرة الإعلاميين اللبنانين بين يرى في الأزمة السورية مادة إعلامية دسمة  وبين من يتعاطف مع الشأن السوري وجدانياً مثل (الإعلامية ريم).



-         أشرف على هذه التحفة الفنية المسماة: سنعود بعد قليل .. الفنان الراحل: نضال سيرجي، والعمل مكتوب بلغة هي للشعر اقرب منها للرواية وأكمل من روعتها كاميرا المبدع الليث حجو والأداء المميز لكل أبطال العمل.



-         اعتقد ان الفنان رافي وهبي من خلاله مسلسله ( سنعود بعد قليل ) حاول يقول موقفه من الراهن السورية صراحة ولكن بالتركيز على الجانب الإنساني فكل أبطال العمل باختلاف الزاوية التي ينظرون بها لنظام بشار يتعاطفون – وهذا طبيعي – مع ما يحدث في بلدهم إنسانياً فالكل يريد ان تتوقف حمامات الدماء والكل يريد عودة السلام الاجتماعي لسوريا والكل يريد ان يتوقف الدمار للبنى التحتية لسوريا الجميلة .. والكل يود ان يكون ( الجميع بخير).   


مزمل الباقر

الخرطوم بحري في 17 أغسطس 2013م

Comments