الرواية عند أحلام مستغانمي..ذاكرة الجسد وفوضى الحواس نموذجاً
الرواية
عند أحلام مستغانمي..
ذاكرة
الجسد وفوضى الحواس نموذجاً
" ما زلت أذكر قولك ذات يوم
الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم
يحدث "
بتلك السطور تبدأ الجزائرية أحلام مستغانمي
روايتها ) ذاكرة الجسد)
متجاوزة البداية التقليدية للحكي. ولا أعني هنا ( حجيتكم ما بجيتكم ) أو بطريقة
عصرية بعض الشيء ( كان يا ما كان ). ما أعنيه بالتقليدية هنا ورود فقرة في بداية
الرواية تمهد للقارئ الدخول إلى عالم الرواية وشخوصها. كأن تبدأ بمشهد في مكان ما
في زمان ما. لكن الأديبة أحلام مستغانمي تتحدى القارئ بعبارة عوضاً عن فقرة
استهلالية.
على العموم سأفرد مساحة مقدرة من هذه
المقالات لرواية ذاكرة الجسد التي كتبتها الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي في
باريس عام 1996م كما يدل
التاريخ المزيل في خاتمة الكتاب المكون من ستة فصول.
محاولة للتعرف على الراوي
في الفصل الأول من الرواية يجد القارئ نفسه
وجهاً لوجه أمام مبدع جزائري في خريف العمر – الراوي – عائد للتو من باريس إلى
مدينته ومسقط رأسه قسنطينة بالشرق الجزائري .. عاد وهو مثخن بالجراح .. جراح علاقة
عاطفية كان مصيرها الفشل. قلت إنه مبدع .. تشعرك الرواية أنك في حضرة كاتب يحادث نفسه
بعد أن تداعت عليه الصور واختلط حابل ذاكرته بنابلها ، فلا تملك إلا أن تحبس
أنفاسك وأنت تصغي لحديثه خشية أن تقطع عليه حبل أفكاره بصوت تنفسك. فالراوي غارق حتى شحمتي أذنيه في لجة أفكاره
يحادث نفسه ( فكرت في غرابة هذا الطعم العذب للقهوة المرة. ولحظتها فقط شعرت أنني
قادر على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبية، ورحت أطارد دخان الكلمات التي أحرقتني
منذ سنوات، دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحة .. هل الورق مطفأة الذاكرة ؟ من منا
يطفئ أو يشعل الآخر؟ ) " ذاكرة الجسد ص 8 – 9 "
بعد أن توغل في أجواء الرواية تكشف أن الراوي
ليس سوى رساماً يحمل فرشاته والألوان حيثما أرتحل وحينما يستقر به المقال يقيم
معرضاً للوحاته. ولكن أين التقى الراوي بمحبوبته أتراه إلتقاها – كما أفصح الفصل
الأول – في كتاب لها جديد .. سمته ( منعطف النسيان ) فطالع صورتها على غلاف الكتاب
وهو – الراوي – يهم بتصفح تلك المجلة ( آخر مرة استوقفني فيها صحيفة جزائرية، كان
ذلك شهرين تقريباً عندما كنت أتصفح مجلة عن طريق المصادفة، إذا بصورتك تفاجئني على
نصف صفحة بأكملها، مرفقة بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك ) " ذاكرة
الجسد – ص 15 "
الراوي وحبيبته ... في غفلة من الزمن
لنتمهل قليلاً .. هكذا يرشدنا الفصل الثاني
من ( ذاكرة الجسد) لذلك. فالراوي له لقاء سابق مع الكاتبة. فقد إلتقاها في معرض
أقامه في باريس حيث يقيم. ( كان يوم لقاءنا يوماً للدهشة .. لم يكن القدر فيه هو
الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول. أليس هو الذي أتى بنا من مدن أخرى، من
زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في قاعة بباريس، في حفل افتتاح معرض للرسم، يومها
كنت أنت زائرة فضولية على أكثر من صعيد .. لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه
التحديد. ولا كنت أنا رجلاً يشعر بضعف تجاه الفتيات اللائي يصغرنه عمراً. فما الذي
قاد خطاك هناك ذلك اليوم؟ .. وما الذي أوقف نظري طويلاً أمام وجهك؟ كنت رجلاً
تستوقفه الوجوه، لأن وجوهنا وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا، ولذا كنت قادراً على أن
أحبّ أو أكره بسبب وجه. وبرغم ذلك، لست من الحماقة لأقول أنني أحببتك من النظرة
الأولى. يمكنني أن أقول أنني أحببتك ما قبل النظرة الأولى. كان فيك شيء ما أعرفه.
شيء ما يشدني إلى ملامحك المحببة إلىّ مسبقاً، وكأنني أحببت يوماً امرأة تشبهك. أو
كأنني كنت مستعداً منذ الأزل لأحب امرأة بتشبهك تماماً. ) " ذاكرة الجسد – ص
51 ".
وقفت وصاحبتها أمام إحدى لوحات الراوي. اقترب
الراوي منها وقد جذب اهتمامه وقوفهما طويلاً أمام إحدى لوحاته الأولى كما جذب
اهتمامه كثيراً ذلك ( المقياس ) – مشغولة من المعدن في شكل سوار يحيط بالمعصم
تلبسها نساء قسنطينة كزينة ) كان المقياس بإحدى معصم الفتاتين. فيشعر الراوي بسابق معرفة بتلك التي ترتدي
ثوباً أبيضاً وتلبس المقياس، فيعزم على التأكد من ذلك الشعور الذي داهمه.
عن ( سي الطاهر ) ... الراوي يروي
تمضى بنا الراوية لتكشف لنا عن جوانب من ماضي
الراوي ( ذاكرته ) فنكتشف أنه قد حارب ضمن من حارب في الجبهة
الجزائرية إبان حرب التحرير. وفيما بعد تحت إمرة (سي الطاهر عبد المولي ) ابن حيّه
واحد كبار المجاهدين والشهداء فيما بعد .. يعود مجدداً بعد أعوام للجبهة فيتلقفه (
سي الطاهر ) شيئاً فشيئاً يصبح الراوي أهلاً لثقة ( سي الطاهر ) حتى أنه يشعر بعدم
وجود الخمسة عشر عاماً التي يكبرها به. ويؤكل ( سي الطاهر ) المهام الصعبة بل يمنح
( سي الطاهر ) الراوي رتبة عسكرية – أظنها الملازم – حتى يتولى زمام المعارك بنفسه.
وفي إحدى المعارك الضارية حاصر العسكر
الفرنسي جيش المجاهدين في الجبال وطوقوا الخناق عليه مما أسفر عن سقوط العشرات في
الجانب الجزائري بين جريح وقتيل.
يحمل الراوي ضمن الجرحى إلى الحدود التونسية
لتلقي العلاج – والذي وصفته أحلام مستغانمي بأن العلاج لم يكن سوى بتر ذراعه – وقبل أن يمضي الركب نحو تونس يجئ (سي الطاهر)
ليودع الراوي ومن ثم يوصيه بأن يتوجه بعد أن تجرى له العملية إلى عائلة الأول
المقيمة بتونس مؤقتاً وأوصاه أيضاً بأن يقوم بتسجيل اسم مولودته في سجل المواليد
باسم ( أحلام (.
تتوثق أواصر الصلة بين أحلام والراوي بعد
خمسة وعشرين عاماً بعد أن روى لها ما فاتها من سيرة والدها ( سي الطاهر ) وكيف أن
طبيبه اليوغسلافي الذي أجرى له العملية قد نصحه – عندما رأه في حالة نفسية سيئة – نصحه بأن يتجه إلى الرسم أو الكتابة ليعيد
صلة ليعيد ترتيب صلة بالعالم مجدداً بعد أن عاد إليه على غير هيئته السابقة ( بعد
أن بترت ذراعه).
وتصبح الصلة أكثر حميمة إثر قبلة جمعتهما في
مرسمه حينما دعى ( أحلام ) لتشهد ميلاد لوحة جديدة له. وهناك يحدثها عن زياد
الخليل صديقه الشاعر الفلسطيني ومن خلال حديثه تغدو ( أحلام ) عاشقة لزياد قبل أن
تراه.
زياد الخليل ... الفلسطيني الثائر
ولعل من الطرافة بمكان أن نكتشف أن صداقتهما
جاءت في أعقاب استفزاز الشاعر للرسام شيء أشبه بمثلنا الشعبي ( كان ما ضاق إيدك ما
ببقى رفيقك) على حد تعبير ذلك المثل ( ذات يوم زارني زياد .. ذلك
الشاعر الفلسطيني الذي حدثتك عنه، والذي لم أكن التقيت به من قبل .. وكنت اتصلت به
لأطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو لي
قاسية تجاه بعض الأنظمة .. وبعض الحكام العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم
بتلميح واضح، ناعتاً إياهم بكل الألقاب.
لم أنسى أبدأ نظرته ذلك اليوم. توقفت عيناه
عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة مهينة وقال: " لا تبتر
قصائدي سيدي .. رد لي ديواني سأنشره في بيروت" شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ
في عروقي، وأنني على وشك أن أنهض من مكاني لأصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن
أتجاهل نظرته وكلماته الاستفزازية .. ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة ؟ )
" ذاكرة الجسد – ص 150
"
ونتساءل مع أحلام مستغانمي على لسان بطلها عن
السبب ) تلقيت كلماته
كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم
أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئاً منذ سنوات سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى
نسخة مبتورة مشوهة مثلي؟ .. قلت له متحدياً، و أنا ألقي نظرة غائبة على غلاف تلك
المخطوطة: " سأنشره لك حرفياً "
( كان لقائي بزياد منعطف في حياتي .. اكتشفت
بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيراً ما تبدأ بالمواجهة
والاستفزاز واختبار القوى
(وترتب على كل ذلك
النتيجة التالية: ( بعدها أصبح زياد تدريجياً صديقي الوحيد الذي ارتاح إليه حقاً )
" ذاكرة الجسد – ص 151 "
كاترين ... قسنطينة فرنسية
شيئاً فشيئاً تتكشف لنا شخصية أخرى أثر لوحة
تشاهدها ( أحلام ) في مرسم الراوي اسمها ( حنين) وملهمه اللوحة أنثى فرنسية هي (
كارين ) ولكن لنبدأ من البداية ( قالت كارين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك بذراعي
وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:
- برافو خالد أهنئك .. رائع كل هذا .. أيها العزيز
تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها
تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي .. أو أي شيء من هذا القبيل ) "
ذاكرة الجسد – ص 72 "
وفي فصول لاحقة تلقي أحلام مستغانمي مزيداً
من الضوء على شخصية (كارين) حينما تسأل) أحلام ) خالداً وهي في مرسمه عن سبب الاعتذار الذي حملت
اللوحة اسمه. ( ورحت أقص لأول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها ذات يوم بعدما حضرت
مرة، كما أفعل بين الحين والآخر، إحدى جلسات الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، حين
يدعوني هناك بعض أصدقائي الأستاذة كما يفعلون عادة مع بعض الرسامين، لألتقي
بالطلبة والرسامين الهواة.
كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي
عار. وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلفة، كنت أنا
أفكر مدهوشاً في قدرة هؤلاء على رسم جسد امرأة بحياد جنسي وبنظرة جمالية لا غير،
وكأنهم يرسمون منظراً طبيعياً أو مزهرية على طاولة، أو تمثالاً في ساحة.
من الواضح أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك
الجلسة. فقد كنت أرى، لأول مرة، امرأة عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض
جسدها بتلقائية ودون حرج أمام عشرات العيون، وربما في محاولة لإخفاء ارتباكي رحت
أرسم أيضاً، ولكن ريشتي التي تحمل رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد
خجلاً أو كبرياء لا أدري .. بل راحت ترسم شيئاً آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه
تلك الفتاة كما يبدو من زاويتي .. وعندما انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة
التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها
كل واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم أرسم سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء
من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة لأنوثتها: " أهذا كل ما ألهمتك
إياه؟ " فقلت
مجاملاً: " لا،
لقد ألهمتني كثيراً من الدهشة، ولكني أنا انتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى
دهاليز نفسه. أنت أول امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل يحترف
الرسم.. فأعذريني إن فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضاً أن نتقاسم مع الآخرين امرأة
عارية .. حتى في جلسة رسم !" ) " ذاكرة الجسد – ص 95 "
وليت الأمر انتهي عند هذا الحد ( ... كان
عليّ فيما بعد أن أقدم لجسدها اعتذاراً آخر يبدو أنه كان مقنعاً لدرجة أنها لم
تفارقني منذ ذلك الحين ) " ذاكرة الجسد – ص 95 "
زياد الخليل ... كلاكيت تاني مرة
تتصاعد أحداث ( ذاكرة الجسد ) نحو الذروة
بظهور زياد الخليل – ولكن بشحمه ولحمه هذه المرة – حينما يأتي إلى باريس ويسكن لدى
خالد وهناك يلتقي بأحلام، فيلحظ اهتمام أحلام بأمر زياد وانصرافها عنه. وتكون
الرحلة الفنية المفاجئة لخالد بمثابة ) القندول الفنقل الريكا ) فلا مفر من ذهابه لأسبانيا
للمشاركة بلوحاته ولا مفر أيضاً من تركه لزياد وأحلام خلفه في باريس.
يعود الراوي من أشبيلية إلى باريس وقد أضناه
التفكير وبرح به الشوق وسكنته شكوك وهواجس تجاه علاقة اعتقد أنها نشأت بين زياد
وأحلام وربما الفتور الذي اكتسى علاقته بأحلام أكد مخاوفه. لقد صارت لا تنتبه
للوحاته الجديدة إلا بعد أن ينبهها زياد إلى ذلك.
بعد أيام من عودة خالد من باريس، عاد زياد
إلى بيروت ومن حينها لم تزر أحلام مرسم خالد وتباعدت بينهما المكالمات الهاتفية
حتى تكاد تنعدم. يموت زياد شهيداً في بيروت بعد أن ترك حقيبته لدى خالد بما تحمله
من أشعار وخواطر والتي صمم خالد على نشرها في كتاب بعد أن علم بوفاة زياد.
موعد مع ... ( سي الشريف
(
يفاجأ خالد بصوت ( سي الشريف ) على الهاتف
يدعوه فيها لزيارته بداره. فيحمل إحدى لوحاته قاصداً دار الشريف عبد المولى. وهناك
يتكشف أنه ليس المحتفى الوحيد به وهكذا تمضى به السهرة ويغادر المكان دون أن يحظى
برؤية أحلام ( كانت سهرة في فرنسا نتحدث فيها بالفرنسية .. عن مشاريع سيتم معظمها
عن طريق جهات أجنبية .. بتمويل من الجزائر فهل حصلنا على استقلالنا حقاً؟!
انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقد
كان " سي ... " متعباً وله ارتباطات ومواعيد صباحية .. وربما ليلية
أيضاً.
إن المال السريع الكسب، يعجل في فتح شهيتنا
لأكثر من ملذات وكان يمكن أن أكون سعيداً ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محط
اهتمام الجميع لأسباب لم أشأ التعمق فيها.
بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع
" سي ... " الذي فهمت أن الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، لأنه
كان يجب أن يكون محاطاً في سهراته بالفنانين دليلاً على ولعه بالإبداع وذوقه غير
العسكري ! ) " ذاكرة الجسد – ص 235 ".
خالد .. موعد مع القدر مرة أخرى
لم يلتقي خالد بأحلام طوال تلك الليلة. ليس
ذلك فحسب ولكن جاءه هاتف من ( سي الشريف ) بعد ذلك بأيام ليزف له خبراً غير سار ) إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة لقد
أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها ..
صحت متعجباً:
- قسنطينة .. لماذا قسنطينة ؟
قال وكأنه يزف لي بشرى:
- لحضور عرس ابنه أخي الطاهر
ثم أضاف بعد شيء من التفكير ..
- ... ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي
ناديا .... شعرت فجأة
أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة ) " ذاكرة الجسد – ص 268 "
خالد وكاترين ... مشهد قبل الوداع
وهكذا أسدل الستار على قصة حب جمع بين
جزائريين في الغربة بدنو موعد زواج أحلام الطاهر عبد المولي من ( سي
....) ، فتتراكم على خالد
الهموم وتتناسخ. وفي تلك الأوقات الحرجة يأتيه صوت ( كارين) عبر الهاتف ومن ثم تزوره
بعد أيام في مرسمه ( سألتني وكأنها لا تجد فجأة مبرراً لوجودها عندي في تلك اللحظة:
- لماذا طلبتني على عجل ؟
قلت:
- لأسباب كثيرة ..
ثم أضفت فجأة:
- كاترين هل تحبين الجسور ؟
قالت بنبرة لا تخلو من التعجبّ:
- لا تقل أنك أحضرتني في هذا الصباح لتطرح علي هذا السؤال!
قلت:
- لا .. ولكني أود لو أجبتني عليه.
قلت:
- لا أدري .. أنا لم أسال نفسي سؤال سؤالاً كهذا قبل اليوم. لقد عشت دائماً
في مدن لا جسور فيها. ما عدا باريس ربما ...
قلت:
- لا يهم .. فأنا أفضل في النهاية ألا تحبينها يكفي أن تحبي رسمي
أجابت:
- طبعاً أحب ما ترسمه .. لقد راهنت دائماً على أنك رسام استثنائي
قلت:
- فليكن إذن .. كل هذه اللوحات لك
صاحت:
- أأنت مجنون !! كيف تهبني كل هذه اللوحات ؟ إنها مدينتك .. قد تحن إليها
يوماً
قلت:
- لم يعد هناك من ضرورة للحنين بعد اليوم، أنا عائد إليها. أهبها لك، لأنني
أدري أنك تقدرين الفن، وأنها معك لن تضيع ) " ذاكرة الجسد – ص 397،
398 "
أخيراً ... قسنطينة
وتنتهي ( ذاكرة الجسد ) بمشهد موغل في الشجن
الأليم على حد تعبير شاعرنا صلاح حاج سعيد برواية الفنان مصطفى سيد أحمد. فالراوي
أخيراً في حضرة الوطن ) يسألني
جمركي عصبيّ في عمر الاستقلال لم يستوقفه حزني ولا استوقفته ذراعي فراح يصرخ في
وجهي، بلهجة من أقنعوه أننا نغترب فقط لنغنى، وأننا نهّرب دائماً شيئاً ما في
حقائب غربتنا ..
- بماذا تصرح أنت ؟
كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه .. ولكنه لم
يقرأني.
يحدث للوطن أن يصبح أمياً ..
كان آخرون لحظتها يدخلون من الأبواب الشرفية
بحقائب أنيقة دبلوماسية .. وكانت يداه تنبشان في حقيبة زياد المتواضعة، وتقعان على
حزمة من الأوراق. فتكاد دمعة مكابرة بعيني تجيبه لحظتها.
- أصرح بالذاكرة .. يا ابني ..
ولكنني أصمت .. وأجمع مسودات هذا الكتاب
المبعثرة في حقيبة، رؤوس أقلام . ورؤوس أحلام ) " ذاكرة الجسد – ص 404".
بعد فرغت من حديثي
عن ( ذاكرة الجسد) بفصولها الست، وقبل أن أنتقل إلى (فوضى الحواس ) والتي
اكتشفت أنها الجزء الثاني من ( ذاكرة
الجسد ). لابد من أن اعترف أنني حينما أردت الكتابة عن أدب أحلام مستغانمي من خلال
هاتين الروايتين حسبت الأمر في غاية السهولة فلي تجربة في عرض مسرحية ( مأساة يرول
) للخاتم عبد الله بصحيفة ( الرأي العام ) وكذلك مقال ( الأفندية ومفهوم القومية
في الثلاثين سنة التي أعقبت الفتح في السودان " 1898 – 1928م " ) للرائع خالد الكد المنشور بمجلة (
الثقافة السودانية ) الذي تشرفت بالكتابة عنه في صحيفة ( الصحافة ). غير أنني وجدت
الأمر ليس كما حسبت فالمهمة غاية في الصعوبة – وإن أوكلت للممثل توم كروز كي
يجسدها في جزء ربما ثالث للفيلم الشهير مهمة مستحيلة ( Mission Impossible ) –
فرواية ( ذاكرة الجسد ) فيها الكثير من كثافة اللغة
الشعرية فهي مكتوبة على بحور الشعر – أو كما قال نزار قباني – فلم يكن بإمكاني
البتة أن أختزل أحداث الرواية في ملخص يفيد بأن الرسام خالد وقع في حب ابنة الشهيد
الطاهر عبد المولي ( سي الطاهر ) وأن القدر لم يشأ أن تكون النهاية سعيدة وكأنه
تواطأ مع ذلك الجميل نزار قباني حيث قال في قصيدته ( إلى تلميذة( :
الحب ليس رواية شرقية بختامها يزوج الأبطال
لن تستطيع الفكاك من لغة أحلام مستغانمي
والرواية لا تملك أن تذكر منها حدث دون الآخر. تماماً عندما تستمع للأسطورة بوب
مارلي وهو يغني ( Redemption Song ) أو لملك موسيقى البوب الأمريكي مايكل جاكسون وهو يغني (
Earth Song ) لن تستطيع أن تصغي
لجزء منها مهما حاولت. نفس الشيء حدث معي وأنا أهم بكتابة هذا المقال المتسلسل عن أدب
أحلام مستغانمي من خلال روايتيها مما حتم علىّ نقل كثير من الفقرات بحذافيرها دون
تصرف مني – هل شعرت
بالممل وأنت تتابع قراءة الفقرات المنقولة من الرواية ؟ هل شعرت بأنك كالأطرش في
الزفة وأنت تقرأ رواية من منتصفها ؟ لقد شعرت مثلك تماماً وأنا اكتب مسودة هذا المقال
.
(
فوضى الحواس ) توشك أن تكون رواية منفصلة بذاتها من حيث الأحداث والأبطال والمشاهد
فتظن ، وبعض الظن إثم ، أن ( فوضى الحواس ) تسير في حظ متوازٍ مع ( ذاكرة الجسد )
فهما كقضيبي السكة الحديد لا يلتقيان أبداً .. شيئاً فشيئاً يجد القراء – كما حدث
لي تماماً – يجدون أنفسهم ممسكين بالحبل السري الذي يصل (ذاكرة الجسد ) باعتبارها
الراوية الأم بطفلتها الوليدة ( فوضى الحواس ) أو ربما العكس هو الصحيح.
بطاقة تعريفية
تبدو رواية ( فوضى الحواس ) مختلفة في شكلها
العام عن ( ذاكرة الجسد ) فإن كانت الأخيرة قد قسمت إلى فصول تبدأ من الفصل الأول
وتنتهي عند السادس . فإن
( فوضى الحواس ) قسمت إلى ( بدءاً - دوماً – طبعاً حتماً – قطعاً ( فالفصول خمسة في ( فوضى الحواس ) بتبويب
مختلف – إن صح التعبير – فعوضاً عن (الفصل الأول – الفصل الثاني ... الخ ) نجد (
بدءاً – دوماً ... الخ ( وهناك أشياء أخرى قد ينتبه إليها قارئ الروايتين ، لكن
لا بأس من التعرض إليها لاحقاً.
الشروع في القراءة
(
عكس الناس، كان يريد أن يختبر
بها الإخلاص. أن يجرّب معها متعة الوفاء عن جوع، أن يربي حباً وسط ألغام الحواس ..
هي لا تدري كيف اهتدت أنوثتها إليه ) "فوضى الحواس – ص 9"
هكذا تبدأ رواية ( فوضى الحواس ) من الذي
تكفل بدور الراوي هنا في الفصل ( الأول ) أقصد في الفصل ( بدءاً ) هل فرغ الرسام
خالد أخيراً من رواية قصته حينما حادث نفسه ( ولابد أن أعثر أخيراً على الكلمات
التي سأنكتب بها، فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي لم أختر تلك القصة.
) " ذاكرة الجسد – ص 9 "
) فوضى الحواس ) .. والحقيبة المفخخة بالأسئلة
كنا قد جلسنا – نحن القراء – بين ( المعازيم
) في عرس أحلام ابنة ) سي
الطاهر ) نصغي للأغاني - التي أفردت لها أحلام مستغانمي مساحة مقدرة من روايتها (
ذاكرة الجسد ) أصغينا لتلك الأغاني نصف إصغاءة وجلسنا غير بعيد لنتابع أصداء العرس
على محيا خالد وكررنا فعلتنا ، دون إحساس بالذنب ، حينما زار ( أحلام ) في البيت
بناءاً على رغبة عمها (سي الشريف ) وحمله معه لوحته التي خلد بها قناطر قسنطينه
وأهداها لأحلام كهدية عرس.
فهل عاد خالد إلى باريس مجدداً كما وعد (
كاترين) وترك روايته لدى ( أحلام الطاهر عبد المولى ) لتقرأها على أسماعنا – نحن
القراء – في ( فوضى
الحواس ) وبدأها بذلك الاعتراف أعلاه؟!!.
(اليوم
عاد ..
هو الرجل الذي تنطبق عليه، دوماً، مقولة
أوسكار وايلد " خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره" مازال كلما تحدث
تكسوه اللغة، ويعريه الصمت بين الجمل.
وهي ما زالت أنثى التداعيات، تخلع وترتدي
الكلمات عن ضمير جسدي .. على عجل.
هي ذي عارية الصوت. تكسو كلمات اللقاء
بالتردد بين سؤالين تحاول كعادتها، أن تخفي بالثرثرة بردها أمامه.
كادت تسأله: لماذا ليس ابتسامته معطفاً
للصمت، اليوم بالذات بعد شهرين من القطعية؟ ثم فكرت في سؤال آخر: أينتهي الحب
عندما نبدأ بالضحك أمن الأشياء التي بكينا بسببها يوماً؟
وقبل أن تسأل، بدا لها وكأنه غير مكثرت إلا
بصمتها أمام ضحكته لحظتها فقط تنبهت إلى أنه لم يكن يرتدي معطفاً
الحزن لا يحتاج إلى معطف مضاد للمطر. إنه
هطولنا السري الدائم وبرغم ذلك، ها هي اليوم تقاوم عادتها في الكلام، وتجرب معه
الصمت كما يجرب معها الآن الابتسام ) " فوضى الحواس، ص 11 – 12 "
ولكنه يفارقها هكذا ويرحل عنها تاركها للحيرة
وجهاً لوجه وربما في جعبتها شيء من أمل ( تذكر أنه، يومها، أطبق على الحزن ضحكة
ومضى. دون أن تعرف
تماماً ماذا كان ينوي أن يقول ؟
لا تريد أن تصدق أنه تخلى عنها، لأنها رفضت
يوماً أن ترافقه إلى مشاهدة ذلك الفيلم الذي كان يستعجل مشاهدته.
سألته أهو فيلم عاطفي .. أجاب (لا)
سألته أهو فيلم ضاحك .. أجاب (لا(
- ولماذا تريد أن نذهب لمشاهدته إذن ؟
- لأنني أحب كل ما يثير في البكاء.
ضحكت يومها. استنتجت أنه رجل غريب الأطوار،
لا يعرف كيف يتدبر أمر حب. وهي لا تصدق أيضاً ما قاله مرة، من أن مأساة الحب
الكبير ، أنه يموت دوماً صغيراً. بسبب الأمر الذي نتوقعه الأقل.
أيعقل أن يكون حبها قد مات، فقط لأنها لم
تشعر برغبة في أن تبكي معه، في عتمة صالة سينما؟ ) " فوضى الحواس ، ص 12 – 13
".
وكانت تصر على مجيئه وكان يصر على الغياب (
تذكر جلست وحيدة في تلك الزاوية من ذلك المقهى الذي كان يعرف الكثير عنهما، والذي
أصبح منذ ذلك اليوم يحمل اسمه خطأً " الموعد "
أحياناً ، يجب على الأماكن أن تغير أسماءها،
كي تطابق ما أصبحنا عليه بعدها، ولا تستفزنا بالذاكرة المضادة. ) " فوضى
الحواس ، ص 14 ".
زمن اللقاءات المباغتة
ثم إنهما التقيا أخيراً، فلنتركها تحدثنا عن
ذلك اللقاء ( ألهذا، عندما طلبته البارحة هاتفياً، قال " انتظري هناك "
ثم أضاف مستدركاً " اختاري لنا طاولةً أخرى .. في غير الزاوية اليسرى" وواصل بعد شيء من
الصمت " ما عاد
اليسار مكاناً لنا "
ألأن الحروب والخلافات السياسية طالت كل شيء،
ووصلت حتى طاولات العشاق وأسرتهم؟ أم لأنه لا يريد إذلال الذاكرة، أراد لها طاولة
لا يتعرف الحب فيها إليهما، كي يكون بإمكانهما أن يضحكا، حيث لم يستطيعا يوماً
البكاء؟ ها هما جالسان إلى الطاولة المقابلة للذاكرة) " فوضى الحواس ، ص 14 ".
ولنراه بعينها بعد ذلك الفراق وقد اتقته
أخيراً . أتراه تغير شيئاً قليلاً ؟ ( هو ذا، لم يتغير. ما زال يتوق إلى الكلام
الذي لا يقال بغير العينين وهي لا تملك إلا أن تصمت، كي ينصتا معاً إلى صخب الصمت
بين عاشقين سابقين.
بين نظرتين يتابع الحب تهربه العابث. وذاكرة
العشق ترتبك. مع عاشق آخر، كان بإمكانهما أن تختلق الآن ضجة وضحكاً
إن تختلق الآن للصمت صوتاً، يغطي على صمتها.
أن تختلق الآن أجوبة لكل سؤال. ولكن معه، هي تحتفظ بالأسئلة، أو تطرحها عليه
دفعةًَ واحدة، دون صوت، بل بذبذبات صمتٍ وحده يعرفها.
وهو، دون أن يطفئ سيجارته تماماً ، دون أن
يشعل رماد الأحلام، دون أن يقول شيئاً بالتحديد، دون أن يقول شيئاً إطلاقاً، كان
يعترف لها بأنه تغير كثيراً من ذلك الحين. هو رجل يشي به سكوته المفاجئ بين كلمتين
.. ولذا يصبح الصمت معه حالة لغوية، وأحياناً حالة جوية. تتحكم فيها غيمة مفاجئة
للذكرى ) " فوضى الحواس ، ص 15 – 16 ".
أحاديث عن ذلك الرجل
إنه رجل غامض ولا شك يرتدي معطفاً شتوياً
ويتوشح بالصمت فهل كان الرسام خالد كذلك حتى يكتب هذه السيرة الذاتية ؟ لا .. لقد
كان كثير الكلام حينما تجيء سيرة ( سي الطاهر ) وسجن الكديا ومظاهرات ( ماي 1945
) وقسنطينة وزياد. نحن إذناً أمام رجل آخر قليل الكلام
يروي سيرته الذاتية في قصة ( وكان هو رجل اللغة القاطعة ... كانت جمله تقتصر على
كلمات قاطعة للشك، تراوح بين " طبعاً " و " حتماً " و "
دوماً " و" قطعاً ".
وبإحدى هذه الكلمات، بدأت قصتهما منذ سنة،
تماماً كما بإحداهن انتهت منذ شهرين. تذكرت أنه يومها، قطع المكالمة فجأة، بإحدى
هذه الكلمات المقصلة، وأنها بقيت للحظات معلقة إلى خيط الهاتف، لا تفهم ماذا حدث
اكتشفت، بعد ذلك، أنه لم يكن بإمكانها أن
تغير شيئاً. فتلك الكلمات، ما كانت لغته فحسب، بل كانت أيضاً فلسفته في الحياة،
حيث تحدث الأشياء بتسلسل قدري ثابت، كما في دورة الكائنات وحيث تذهب " طوعاً
" إلى قدرنا، لنكرر " حتماً " بذلك المقدار الهائل من الغباء أو من
التذاكي، ما كان لابد " قطعاً " أن يحدث. لأنه " دوماً " ومنذ
الأزل قد حدث، معتقدين " طبعاً " أننا نحن الذين نصنع أقدارناً!) " فوضى الحواس ، ص 18 – 19
".
البحث عن الراوي
من الراوي هنا يا ترى ؟ أنه ليس خالد على كل
حال، ( بكلمة كانت يده تعيد الذكرى إلى مكانها، وكأنه بقفا كلمة، دفع بكل ما كان
أمامهما أرضاً. ونظف الطاولة
من تلك الخلافات الصغيرة التي باعدتهما.
هي تعرف أن الحب لا يتقن التفكير. والأخطر
أنه لا يملك ذاكرة إنه لا يستفيد من حماقاته السابقة، ولا من تلك الخيبات الصغيرة
التي صنعت يوماً جرحه الكبير.
وبرغم ذلك، غفرت له كل شيء .. " قطعاً
" كانت سعيدة، بهزيمتها التي أصبح لها مذاق متأخر للنصر. سعادته " حتماً
" بنصر سريع، في نزال مرتجل، خاضه دون أن يخلع " حتماً " معطفه ! )
" فوضى الحواس ، ص 23
".
حسنٌ .. لقد اتفقنا على أن الرسام خالد ليس
براوٍ للقصة أعلاه من راويها إذن ؟ ( أحببت هذه القصة، التي كتبتها دون أن أعي
تماماً ما كتبت .. فأنا لم يحدث أن كتبت قصة قصيرة ولست واثقة تماماً من أن هذا
النص تنطبق عليه تسمية كهذه. كل ما كان يعنيني، أن أكتب شيئاً أي شيء أكسر به
سنتين من الصمت.
لا أدري كيف ولدت هذه القصة أدري كيف ولد
صمتي ولكن تلك قصة أخرى. منذ يومين، فاجأت نفسي أعود إلى الكتابة هكذا .. دون
قرار مسبق، ودون أن يكون قد طرأ على حياتي أي حادث بالذات يمكن أن يكون سبباً في
إثارة مزاجي الحبري. ربما لا شيء عدا كوني اشتريت منذ أيام دفتراً، أغراني شكله
بالكتابة.
حدث ذلك عندما ذهبت كي أشتري من القرطاسية،
ظروفاً وطوابع بريدية ورأيت ذلك الدفتر مع حزمة من الدفاتر. كان البائع يفردها
أمامي وهو يقوم بترتيبها، استعداداً لاقتراب الموسم الدراسي.
كما يتوقف نظري أمام رجل، توقف عند ذلك
الدفتر. وكأنني وقعت على شيء لم أكن انتظر العثور عليه في ذلك المحل البائس الذي
لا أدخله إلا نادراً ... أليست
الكتابة كالحب: هدية تجدها فيما لا تتوقع العثور عليها ؟ ) " فوضى الحواس ، ص 23 – 24
".
ابنة ( سي الطاهر ) ... مرة أخرى
هل نحن أمام أحلام الطاهر عبد المولى نطالع،
هذه المرة، روايتها ) منعطف
النسيان ) أظن الأمر مختلف بعض الشيء فكما أن العنوان مختلف فالشكل مختلف كذلك )منذ اللحظة الأولى، شعرت أن بيني وبين هذا
الدفتر، ذبذبات ما، تعدني بكتابة نص جميل، على هذا الورق الأبيض الأملس الذي تضمه
مفاصل حديدية. ويغطيه غلاف أسود لامع، لم يكتب عليه أي شيء.
ركضت به إلى البيت. أخفيه وكأنني أخفي تهمة
ما. ولم أخرجه سوى البارحة، لأكتب فيه تلك القصة القصيرة، التي قد تكون عنوانها
" صاحب المعطف " ) " فوضى الحواس ، ص 25 ".
لكن الراوية رأت في المساء أن تلك الخاتمة لم
ترقى لرضاها بعد أن اكتشفت أن المرأة لا تعنيها بقدر ما أثار الرجل صاحب المعطف
اهتمامها. فدخلت في تحدٍ معه فهي تريد أن تجعله يخلع معطفه وترغمه على الثرثرة.
فعادت من جديد تستأنف الكتابة.
)ذات مطر .. جاء صوته على الهاتف.
وبرغم البرد، بدا وكأنه خلع معطفه وهو يسألها:
- كيف أنتِ ؟ أما زال لك ذلك الولاء للمطر ؟
ولم تدرِ ، أكان لابد أن تستنتج أن في أسئلته
عودة إلى حبها، أم أن المطر هو الذي عاد به إليها؟
فهي لم تنس قوله مرة " الأسئلة تورط
عشقي ". تماماً كما تذكر ذلك الوعد الذي جمعهما مرة في سيارته، بينما كان
المطر يهطل بغزارة ) " فوضى الحواس ، ص 29 ".
مشروع لقاء
لندع وعدهما جانباً فقد أرادت الراوية ولعلها
( أحلام الطاهر عبد المولى ) أن تجمعها ثانية بتعبير أدق أن يتوعدا ( - هل أراك غداً
؟ فكرت أنه يكون جميلاً، لو ذهبنا لمشاهدة ذلك الفيلم معاً .. في يوم ممطر.
وقبل أن تسأله عن أي فيلم يتحدث. واصل:
- أتدرين أنه ما زال يعرض في القاعة نفسها منذ شهرين ؟ إنها عمر قطيعتنا.
لم تحاول هذه المرة أن تخترع له أعذاراً.
سألته فقط:
- أين نلتقي ؟
قال
- في سينما " أولمبيك " قبل عرض الساعة الرابعة
ثم استدرك:
- أو إذا شئت .. انتظريني عند مدخل الجامعة. سأمر وآخذك من هناك، عند الساعة
الثالثة والنصف . هذا أفضل
وقبل أن يمنحها وقتاً تقول فيه شيئاً، كان قد
وضع السماعة مودعاً، ليتركها من جديد لأسئلتها. ) " فوضى الحواس ، ص 30 – 31 ".
بين ابنة ( سي الطاهر ) وجحا
هنالك قصة منسوبة إلى نصر الدين خوجه وشهرته
في الأدب العربي " حجا " مفادها أنه أراد التخلص من أطفال حيه المشاكسين وقد
أثقلوا عليه. فزعم لهم أن فلان الفلاني ، وكان من أعيان المدينة، قد أقام مأدبة
ضخمة عجت بكل صنوف الطيب من الطعام، فأنطلق الأطفال من فورهم نحو الدار لا يلون
على شيء. فلما مضوا
عنه، أطرق حجا قليلاً وقال: ربما كانت هنالك وليمة في دار فلان!. فحث خطاه نحوها
محاولاً اللحاق بأولئك الأطفال.
تذكرت تلك حكاية حجا مع اطفال حيه فبعد أن رضيت
الراوية أخيراً بتلك النهاية واطمأنت لها، خالجها شك فشلت في إخماده ( ها قد جعلته
ينطق أخيراً، يقول كلاماً أردته أنا. لا لأنه طلب للمرة الثانية من تلك المرأة أن
ترافقه لمشاهدة ذلك الفيلم، وهو أمر لا يشبهه، ولكن لأنه أعطاها اسم قاعة للسينما
لم أسمع بها من قبل. ولا أدري إن كانت موجودة حقاً. لكوني لم يحدث أن ارتدت
السينما في هذه المدينة، أو تابعت حتى ما يعرض فيها من أفلام.
فجأةً، خطر ببالي أن أبحث في الجريدة، إن
كانت هذه القاعة موجودة حقاً. وهكذا رحت أفتش في الصفحة المخصصة لبرامج التلفزيون
والعروض السينمائية، مدققة في أسماء قاعات السينما، الواحدة تلو الأخرى، وإذا بي
أعثر على قاعة " أولمبيك " حيث يعرض فيلم أميركي بعنوان "
Dead Poets Society " من
الأرجح أنه يعرض بنسخته الفرنسية، فلا أحد هنا يفهم الإنجليزية.
حاولت أن أجد ترجمة لهذا العنوان، عسى ذلك
يفك بعض لغزه. فعثرت على عنوان قد يكون: " حلقة الشعراء الذين اختفوا
".
ولأنني لم أصدق تماماً أن يكون هذا هو الفيلم
الذي يعنيه ذلك الرجل، فقد رحت أدقق في كل الجرائد القديمة المكدسة أرضاً في مكتب
زوجي، والتي يحضرها كل يوم بحكم وظيفته، فتبقى ملقاة هنا أرضاً ، قبل أن يضعها
بنفسه خارج مكتبه.
رحت أقلب صفحات السينما في كل الأعداد التي
صادفتني. وكل مرة كنت أعثر على ذلك الفيلم معروضاً في القاعة نفسها. ) " فوضى
الحواس ، ص 32 – 33 ".
ويؤرقها التفكير فالأمر محير ولا شك ( أتراني
قد وقعت تحت إغراء الكتابة وفتنتها لأصدق أن هذا الرجل هو الذي أملى علي موعداً .. كتبته بيدي؟ ) " فوضى الحواس ، ص 36 ".
الحبل السري بين ( ذاكرة الجسد ) و ( فوضى
الحواس)
تحدثنا الراوية عن زوجها فتكاد تقسم أنه ( سي
... ) وإنها أحلام ابنة الشهيد ( سي الطاهر ) فالشبه هنا يصل حد التماثل ( أتوقع
أن يكون زوجي قد ولد بمزاج عسكري، وحمل السلاح قبل أن يحمل أي شيء فأين العجب في
أن يكسرني أيضاً دون قصد، تماماً، كما أغراني قبل ذلك بسنوات، دون جهد ؟ أليست
السلطة، كالثراء، تجعلنا نبدو أجمل وأشهى ؟
أو ليست النساء كالشعوب، يقعن دائماً تحت
فتنة البذلة العسكرية وسطوتها قبل أن ينتبهن إلى أنهن بابنها رهن بها، قد صنعن
قوتها ؟
صحيح أنه فعل ذلك تدريجياً، وبكثير من
اللياقة، وربما بكثير من التخطيط، وأنني كنت أمضى نحو عبوديتي بمشيئتي ومن الأرجح
دون انتباه. سعيدة بسكينتي أو استكانتي إليه. تاركة له الدور الأجمل. دور الرجولة
التي تأمر، وتقرر وتطالب وتحمي وتدفع وتتمادى. كنت أجد في تصرفه شيئاً من الأبوة
التي حرمت من سلطتها ) " فوضى الحواس ، ص 37 – 38 ".
أليس من حرمت من سلطة الأبوة هي أحلام بنت (
سي الطاهر ( ؟ أو ليس تلك ذاكرتها ؟ ( ورتبته العسكرية لم تكن تعنيني بوجاهتها
وإنما لكونها استمراراً لذاكرة نضالية نشأت عليها، وعنفوان جزائر حلمت بها.
كنت أرى في قامته الوطن، بقوته وشموخه. وفي
جسده الذي عرف الجوع والخوف والبرد، خلال سنوات التحرير، ما يبرر اشتهائي له ..
واحتفائي به إكراماً للذاكرة ) " فوضى الحواس ، ص 38 – 39
".
صاحب المعطف .. مع سبق الإصرار والترصد
وتوشك الراوية أن تصبح طرفاً في القصة لتشارك
( صاحب المعطف ( بطولتها
ناسية أنها امرأة متزوجة اكتشفت أنها تعاني من عقدة الماضي الحافل بدماء الشهداء
وأصداء سجن الكديا وحرب التحرير.
) كم مر من الوقت، قبل أن اكتشف حماقة خلطي عقدة الماضي بالواقع المضاد ...
تماماً، كخلطي الآن، بين وهم الكتابة ... والحياة، وإصراري على الذهاب إلى ذلك
الموعد الذي أقنعت نفسي عبثاً بأنني لست معنية به، وأنه سيتم بين كائنات حبرية، لا
يحدث أن تغادر عالم الورق ؟
ورغم ذلك أمضي .. دون أن أدري أن الكتابة
التي هربت إليها من الحياة، تأخذ بي منحىً انحرافياً نحوها وتزج بي في قصة ستصبح ،
قصتي.) " فوضى
الحواس ، ص 39".
في الفصل ( دوماً ) وهو بمثابة الفصل الثاني
للرواية. تفد الراوية –
ولنفترض جدلاً أنها أحلام الطاهر عبد المولي – تفد إلى سينما (أولمبيك ) بعد ربع
ساعة من بدء العرض (كي لا أقف في طابور الانتظار، أو أدخل القاعة على مرأى من
الناس) " فوضى الحواس ، ص 45 ".
وطلبت من السائق أن يعود إليها قبل انتهاء
العرض بربع ساعة أيضاً، حتى لا يتعرف عليها أحد عند إضاءة الصالة بعد انتهاء العرض. وربما تفادي لتحرش أحدهم بها فصالات السينما
في قسنطينة لا تدخلها النساء عادةً.
عندما دخلت ( أحلام الطاهر ) القاعة، كان
معظم النظارة من الرجال، عدا رجل برفقته امرأة يجلسان في آخر القاعة وحدهما. فظنت
– وبعض الظن إثم – ( أنهما " هما " فاخترت لي مكاناً خلفهما تماماً،
وكأنني احتمي بهما، أو أتجسس عليهما.
أتوقع أن وجودي أزعجهما. ولكنهما وجدا في
أنوثتي ما يبعد الرعب عنهما. ) " فوضى الحواس ، ص 46 ".
وتشاغلت ( أحلام ) عنهما بمتابعة الفيلم
وانصرفنا نحن القراء معها نتابع الفيلم كذلك حتى أننا نسينا لما قدمنا معها لتلك
الصالة القسنطينية في تلك الليلة . وعندما أوشك ( أحلام ) أن تتيقن من أن الرجل
الذي ناهز الأربعين من العمر والذي تجلس خلفه هو (صاحب المعطف) ولا شك. ولنترك الحديث للأديبة أحلام مستغانمي مقتفين
أثر مثلنا الشعبي ( سمح الغنا في خشم سيدو ) ولنصغي لقادم الحديث ( في هذه اللحظة،
حضر رجل ليأخذ مكانه على الكرسي المجاور لي تماماً. وهو ما زاد في إزعاجي، وجعلني
أندم على حماقة مجيئي إلى هذه القاعة، معرضة نفسي للشبهات. فلا أحد هنا سيصدق أو
سيفهم أن أكون كاتبة جاء بها الفضول، وأرادت أن تتلصص على عاشقين، اعتقدت أن من
حقها أن تندس بيتهما، لأنها خلقتهما ! ) " فوضى الحواس ، ص 49 ".
يمضى الوقت سريعاً وتمضي أحداث الفيلم
متسارعة والرجل الذي يجاور ( أحلام ) يبدو في غاية التهذيب. فتدع هواجسها جانباً ،
وتنصرف إلى متابعة أحداث الفيلم الذي يبدو شيقاً. تنتبه إلى أن الرجل الذي أمامها
قد أخرج ورقة صغيرة وكتبت فيها شيئاً ودفع بها إلى المرأة التي تجاوره. فاعتقدت ( أحلام ) أنه رقم هاتفها فمالت إلى
الأمام لتنظر ( وقبل أن ألمح على الورقة رقماً، من الأرجح أنه رقم هاتفي، شعرت أن
شيئاً قد وقع مني. تحسست
أذني، وإذا به قرطي قد سقط أرضاً.
انحنيت لأبحث عنه، مستعينة بشعاع ضوء قادم من
الشاشة، وإذ بولاعة تشتعل على مقربة منيّ، ورجل ينحني ليضئ لي المكان. )
" فوضى الحواس ، ص 52 – 53
".
وجدت قرطها ولفت انتباهها ذلك الرجل ( أصلحت
من جلستي، بعد أن قلت له بصوت خافت بضع كلمات من باب اللياقة:
- أعتذر .. لقد أزعجتك
ولكنه أطفأ ولاعته وقال وهو يعيدها إلى جيبه:
- قطعاً ..
وعاد إلى مشاهدة الفيلم.
كلمته الفريدة شدتني ، وسمرتني في مكاني. فقد
لفظها وكأنه يلفظ كلمة السر التي لا يعرفها سوانا.
ألقى بها في وجهي وكأنه يرمي إلى ببطاقة
تعريفه، بنبرة موجزة فيها شيء من الاستفزاز المهذب أو السخرية المستترة. ولم يضف
شيئاً إليها. ) " فوضى
الحواس ، ص 53 – 54 ".
تعيدنا أحلام مستغانمي – نحن القراء – مرة
أخرى إلى مشاهدة الفيلم المعروض على شاشة الصالة " Dead Poets
Society " تاركة لجار (
أحلام ) فضل المتابعة أيضاً. تنتبه الأخيرة إلى أن الفيلم يشارف على نهاياته
وعليها أن تعود بصحبة سائقها ( كانت بي رغبة في مشاهدة نهاية الفيلم، ومعرفة ما
إذا كان الطلبة سيتخلون عن الأستاذ الذي علمهم كل شيء بما في ذلك الدفاع عما
يعتقدونه حقيقة، أم هل تراهم سينهزمون، أمام أول مساومة دنيئة تضعهم أمامها
الحياة، لولا أنني تنبهت إلى مرور الوقت، واقتراب نهاية الفيلم، الذي سيفاجئني
الضوء بعده، فيحرق شريط حلمي، ويحولني كما في قصة سندريلا من سيدة المستحيل، إلى
امرأة عادية، تجلس في قاعة بائسة، جوار رجل قد لا يستحق كل هذه الأحاسيس الجميلة
التي خلقها في داخلي ) " فوضى الحواس ، ص 57 ".
لكن أتمضي هكذا دون أن تتأكد من أنها قد جلست
خلف ( صاحب المعطف ) أو ربما جاورته؟ لا أظنها سنسحب هكذا دون ضجة تشي لها بأنها
قد أصابت أو جانبت الحقيقة ( وكنت قد يئست من مباغتة هذا الرجل لي بكلمة، تؤكد أو
تنفي ظنوني. ولذا قررت أن أباغته بانصرافي. فوقفت وتوجهت إليه بكلمات أردتها عادية
بقدر الإمكان:
- عفواً .. هل تسمح لي بالمرور ؟
وجاء جوابه بكلمة واحدة:
- حتماً ..
ووقف، ليلتصق بكرسيه، تاركاً لي ما يكفي من
المسافة ليلامس جسدي جسده من الخلف دون أن يحتك به تماماً.
مسافة لم أدري أعبرتها في لحظة، أم في ساعات.
ولكنها المسافة الصغيرة والكبيرة في آن واحد، تلك التي عندما نقطعها، نكون قد
تجاوزنا عالم الحلم، إلى عالم الحقيقة.
أكانت كافية .. ليلتصق بي عطره، يخترق حواسي
حد إيقافي بعد ذلك أشهراً، أمام رجولة لن أستدل عليها سوى بعطرها ؟) " فوضى
الحواس ، ص 57 – 58 ".
صاحبا المعطف !!
تكتشف عند المساء أن قرطها قد سقط في حقيبتها
عوضاً عن السقوط في أرض القاعة ولكنها بسقوط قرطها عرفت أي الرجلين هو ( صاحب
المعطف ) فقد كان يجلس إلى جوارها وليس أمامها ... تحاول أن تلتقيه ثانية فتعود
إلى دفترها الأسود تحديداً إلى صفحات قصتها فيه لتعرف أين سيواعد صاحب المعطف
محبوبته.
في مقهى الموعد حارت في أن تجلس إلى اليمين
مستعينة بالقصة ( ما عاد اليسار مكاناً لنا ( أم بالجهة اليسرى لتراقب الوافدين للمقهى
وأخيراً ( في زوايته اليمنى رجل بقميص أبيض دون ربطة عنق ، منهمك في الكتابة.
أمامه أوراق .. وجرائد وكثير من أعقاب السجائر.
جلست في الزاوية المقابلة له. محافظة على
مسافة ثلاث طاولات بيننا، تحسباً للخطأ. بدت منه التفاته فضولية نظر إلى بعض
الشيء. وإلى الجرائد التي وضعتها على الطاولة. ثم عاد إلى الكتابة. ) " فوضى
الحواس ، ص 65 ".
بعد قليل حضر شخصاً آخر بنظارة سوداء وقميص
أسود وبادرها محيياً بإيماءة من رأسه ففجر فيها تساؤلات حول معرفته بها أم بزوجها
أو أخيها أم أنه موجود هنا لملاقاة صديقه وثم إنها تساءل فيما إذا كان ذلك الذي
يقابلها في المقهى ويكتب ربما كان هو رجلها المنشود.
يحضر النادل لها القهوة وينصرف فتنتبه لعدم
وجود السكر بجوار القهوة فترفع يدها للنادل غير أنها تستحي من مناداة فيتبرع ذو
النظارة السوداء بمناولتها قطع من السكر في صحن وعندما اقترب منها فاح عطره وكان
نفس العطر الذي شمته في السينما ولكي تتأكد منه ( ولذا لم أقاوم رغبة في استدراجه،
أو في اختباره، وأنا أكرر معه المشهد نفسه، مستعملة الكلمات نفسها:
- آسفة .. لقد أزعجتك
وجاءني الرد، مذهلاً في تطابقه
- قطعاً
وكما في المرة الأولى قالها ومضى، دون أن
يضيف شيئاً ) "فوضى الحواس، ص 70 – 71
بعد قليل عاد إليها صاحب النظارة السوداء
وجلس إليها وغادرا المقهى لمكان آخر أكثر هدوءاً. وهناك انهمكا في الحديث ولكنها
فضلت أن تحاصره بالأسئلة فعلمت أنه من قسنطينه كما علمت أنه رساماً فاندهشت فلما
سألها عن السبب أخبرته أنها كانت في السابق تعرف رساماً من قسنطينه مهووساً
بمدينته لدرجة أنه لم يرسم سوى قناطرها. ولقد كانت أحلام تتحدث عن خالد فيما يبدو.
عندما عادت إلى البيت أغرقت في التفكير به
واحتارت بين الاستمرار في هذا الحب أم العدول عنه ولعلها اختارت الخيار الأول
لأنها استقلت وجود أمها معها في البيت لتقترح عليها أن ترافقها في رحلة العودة إلى
بيتها حتى تتمكن في أثناء عودتها أن تطلب من السائق التجول في المدينة لعلها ترى
ذا النظارة السوداء في مكان ما.
خالد .. يعود من جديد
تحملها السيارة إلى جسور قسنطينه قد يكون
هناك ( في الواقع، كنت لا أصدق كراهيته لهذه الجسور. وبرغم ما قاله أحسه مشابهاً
لذلك الرسام الذي عرفته في الماضي .. والذي كان مهووساً بها حد الجنون.
أذكر أنه كان يحبني بقدر حبه لها، ويصر على
كوني أشبهها كلما رسمها. وأنا لم أكن أحبها، ولا كنت أشبهها. كنت أحبه، وأشبه
صديقه الشاعر لا غير. أو
ربما بالعكس كنت أشبهه هو، وأحب صديقه، أو على الأصح، كنت أشبهه نفسي وأحبها معاً.
فافترقنا. كان هناك حباً زائد في قصتنا. وكان
ثمة قدر مضاد .. مات الشاعر ميتة فلسطينية وتزوجت تلك الفتاة زيجة قسنطينية واختفى
الرسام، وكأنه قرر أن يموت أيضاً على طريقته غيابياً . كان من الممكن أن يعود، تحت
أي مبرر، فقد كان رجلاً لا يغلق في وجهه باب. ولكنه لم يعد. مضى كما جاء، دون ضجيج
وترك لي لوحة معلقة على جدار غرفة الاستقبال عليها جسر معلق كقصتنا بحبال من حديد.
) " فوضى الحواس ، ص 105 – 106 ".
إذن ها هو خالد الرسام يطل من جديد فتذكره
وهي تقف على أحد الجسور ممسكة بحبلها وإذا بها تشعر بدوار ( قدماي تكادان لا
تحملانني وأنا أقف مذعورة على علو سبعمئة متر، أستعيد رجلاً رحل وانتظر آخر لن
يأتي. أسعد لأن
السائق غادر السيارة ووقف ليرافقني حتى لا تثير وقفتي العجيبة فضول المارة. )
" فوضى الحواس ، ص 107 ".
اللحظات الأخيرة لعم أحمد
تتجاذب أطراف الحديث مع السائق ثم يعودا بناء
على التماس الأخير الذي سبقها إلى العربة وإذا بدويّ رصاصة يمر بقربها ( انتفضت
والتفت مذعورة خلفي، فلم ألمح سوى شاب، أصبح على عدة أمتار مني، يركض كسهم وسط
الناس ويختفي عند زقاق يتفرع من الجسر. بحثت عن عمي أحمد فلم أره داخل السيارة ولا
خارجها، تقدمت خطوات نحو الجهة الأخرى. وإذا بجسده ممدد على الأرض ودم ينزف من
رأسه وصدره. ) " فوضى الحواس ، ص 109 ".
تقاد إلى قسم الشرطة كشاهدة أما السائق ( عم
أحمد ) فتوافيه
المنية في المستشفى ( لقد بلغ أحلامه في اللحظة الأخيرة من عمره. ومات بتهمة أحلامه. وربما سعيداً بها ألم يمت
ضابطاً في المكان الذي يحبه الأكثر في قسنطينه ؟ الجسور !
المكان نفسه الذي من الأرجح، أن يكون قد حارب
فيه منذ ثلاثين سنة وجازف فيه بحياته أكثر من مرة. ولكن الموت لم يأخذه يومها،
لأنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين، أو شهيداً في عملية فدائية. تلك
ميتة عادية.
أراده بعد ثلاثين سنة، جندياً يجلس في مقعد
ضابط جزائري ليموت برصاص جزائري. إن ميتة كهذه، وحدها ميتة استثنائية ! ) "
فوضى الحواس ، ص 121 -122".
لقاء على هامش العزاء
بعد انقضاء أيام العزاء تلتقي صاحب النظارة
السوداء ولكنه هذه المرة في مكان مختلف جداً (في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع
أعضاء من " التجمع
الوطني " أراه، وأكاد لا أصدق عيني ) " فوضى الحواس ، ص 246
".
ولكنه كان قد أخبرها أنه في باريس فكان لابد
لها من أن تتحرى فطلبت رقمه على الهاتف وبعد قليل كان ( هو ) على الطرف الأخر.
ويلتقيان بعد ذلك في الشقة مجدداً وهناك تلح ( أحلام ) عليه في معرفة أسمه ( يجيب
بنبرة عادية:
- اسمي خالد بن طوبال.
أردد مذهولة:
- خالد بن طوبال ؟
ولكنه يقاطعني:
- أدري أنه اسم بطل في روايتك .. أعرف هذا ولكنه
أيضاً اسمي ) " فوضى الحواس ، ص 266 ".
تتصاعد الأحداث ( أجلس على طرف الأريكة،
أتفرج على رجل أتعرف إليه، واستعيد آخر، عرفته يوماً في كتاب سابق. كان أيضاً
رساماً في قسنطينه. رجل أعرف كل شيء عنه كما لو كان أنا، ولم تفصلني عنه سوى
الرجولة وجسد شوهت الحرب ذراعه اليسرى.) " فوضى الحواس ، ص 266 ".
فتسأله إن كان خالد بن طوبال اسمه الأول أم
الثاني وهل هو اسم يناديه به أصدقاؤه وزملاؤه في العمل فيومئ بالإيجاب ويخبرها أنه
الاسم الذي يوقع به مقالاته الصحفية ويطلعها على مقال له يحمل توقيعه.
يتواطأ القدر معه فتنتبه فجأة لذراعه اليسري
التي تبدو مشلولة وعليها آثار تشوهات وكأن عملية جراحية أجريت عليها ( تنتابني
قشعريرة وحالة من الذعر، ليس مصدرها ما أرى. وإنما خوفي من أن أكون قد بدأت أجن،
ولم أعد أعرف الفاصل بين الكتابة والحياة. أو كأنني حلمت يوماً بأن ما يحدث لي سيحدث.
وها هو ذا يحدث فعلاً. وإذا بي أمام رجل خلقته، وشوهته بنفسي. ) " فوضى
الحواس ، ص 270 ".
وتحار ( أحلام ) فيما يحدث أمامها (
وبرغم كل هذا، يبقى الأمر
مربكاً فأنا لا أريد أن أصدق أن ذلك الرجل الذي ما أنفك منذ ستة أشهر يقلب حياتي
رأساً على عقب ، هو خالد بن طوبال، ذلك الكائن الحبري الذي خلقته منذ عدة سنوات. ثم نسيته داخل كتاب. ألقيت به إلى جوف مطبعة،
كما نلقي بجثة إلى البحر، بعد أن نثقلها بالصخور، حتى لا تعود إلى السطح ولكنه
عاد.) " فوضى الحواس، ص 274 ".
لقاء أخير مع .. صاحب النظارة السوداء
بعد تلك الحادثة بأيام تشير إليها والدتها
بأن تكتب رسالة إلى ناصر الذي ذهب إلى ألمانيا ولكنها ( أحلام ) تماطل أمها لتهاتف
صاحب النظارة السوداء فيطلب الأخير أن يلتقيها في نفس الشقة. وهناك أطلعها بحقيقة
أمره حيث أن ذراعه شلت أثناء صدور كتابها وأن صديقه عبد الحق جاءه بالكتاب في
المستشفى ونصحه بقراءته وكيف أنه ذهل بل خاف من الكتاب لأن بطل القصة كان يشبه إلى
حد بعيد. ويتشعب بهما الحديث فتعلم أنه اتجه إلى الكتابة الصحفية وقد كان مصوراً
صحفياً بعد أن أصبت ذراعه أثناء تغطيته لأحداث أكتوبر 1988م. ثم إن ( أحلام ) ذكرته بفيلم ( حلقة
الشعراء الذين اختفوا ) فأخبرها بأنه لم يشاهده قط وإنما حدثه به عبد الحق الذي
شاهد الفيلم في صالة سينما أولمبيك.
مرت أيام على ذلك اللقاء والذي كان بمثابة
اللقاء قبل الأخير. أما اللقاء الأخير ( اللقاء الوداعي ) فقط كان بجوار البحر على
مقهى تباغته بسؤال حول إمكانية اقترانه بها إن هي انفصلت عن زوجها فيرفض لدهشتها
وعندما تستفهم منه عن السبب يخبرها بأنه لا يملك شيئاً من حطام الدنيا فتعجب وهي
تعلم بأمر الشقة فيطلعها أنها شقة صديقه عبد الحق وكذلك العطر والكتب.
البحث عن .. صاحب المعطف الحقيقي
بعد مرور شهران تحاول ( أحلام ) أن تبحث عن -
( صاحب المعطف ( الحقيقي -
عبد الحق فتذهب مقهى ( الموعد ) الذي وجدته فيه أول مرة منهمكاً في الكتابة. ولكنه
لم تلتقيه هناك وإنما التقته على صفحات جريدة موضوعة على طاولة ( صورة كبيرة، أعرف
تماماً ملامح صاحبها، وفوقها كلمتان بالفرنسية مكتوبتان بخط أسود كبير .. كلمتان
جعلتاني أتسمر في مكاني ذهولاً. كنت أتوقع من الموت كل شيء، تقريباً كل شيء، من
نوع تلك الكلمات المفاجآت الدنيئة، التي وحده يتقنها. ولكن هذا الصباح كانت
الجريدة التي لم اشترها. تنقل لي الموت الوحيد الذي لم أتوقعه فالبارحة فتح ذلك
الحوت فكيه وابتلع لوجبته المسائية – من جملة من ابتلع – عبد الحق. ) " فوضى
الحواس ، ص 345 ".
تقرر ( أحلام ) أن تزور ( عبد الحق ) في قبره
بعد انتهاء مراسيم تشييعه وظنت أنها ستلتقي هناك بصديقه صاحب النظارة السوداء لكنه
لم يحضر . تذكرت أثناء
ذلك القصيدة التي كتبها (عبد الحق ) في رثاء ( الطاهر جعوط ) صديقه الذي اغتيل
والتي نشرت بجوار نعيه في الصحف وكان أحلام قد اقتطعت تلك القصيدة وخبأتها في
دفترها الأسود الذي كانت تحمله معها لتعطيه لصاحب النظارة السوداء. شرعت في قراءة
القصيدة بصوت مسموع حينما ضاع صوتها في آخر بيت ( ألهذا لم أبك، وأنا أضع ذلك
الدفتر على كومة التراب وأمضى ؟ بل لم أحاول بعد ذلك أن التفت خلفي لأشاهد لآخر
مرة ذلك المنظر الذي لن يتكرر بعد ذلك أبداً، والذي بإمكاني بعد الآن أن أصف في
روايات قادمة، وقعه على نفسي. لأنه حدث بالفعل. ) " فوضى الحواس ، ص 363
".
بعد ذلك عادت أحلام إلى البيت تاركة الدفتر
الأسود خلفها على مقبرة تواري جسد (عبد الحق) فتلقفتها أمها وشرعت في تمليتها
رسالة إلى ناصر وفي الصباح ذكرتها بضرورة إرسال الرسالة فكادت أحلام أن تعطيها
لزوجها فتنتبه إلى أنه يجدر بها أن تخفي عنوان ناصر عنه.
كما ذلك اليوم
تغادر البيت لأول مرة منذ أسبوعين إلى محل
القرطاسية لتشتري ظروفاً وطوابع فتنهي الأديبة أحلام مستغانمي روايتها ( فوضى
الحواس ) هناك في ذلك المكان قبل أن تزيلها بتاريخ 19 ديسمبر 1997م
(كما
اليوم، كان الطقس خريفياً يغري بشيء ما. ولكنني اليوم، لا أحاول أن أسال نفسي،
بماذا هو يغري بالتحديد .. فمنذ أسبوعين، وأنا امرأة أمية تتحاشى الأسئلة، خشية أن
تباغتها أعراض الكتابة.
كنا في بداية الموسم الدراسي، أذكر .. "
بدءاً " كانت سماء تجدد هيأتها بين فصلين وكاتبة تجدد حبرها بين كتابين.
وكما اليوم البائع نفسه كان منهمكاً في ترتيب
ما وصله من لوازم مدرسية فارداً دفاتره وأقلامه أمامي.
كما منذ سنة، ها هو يتوقف قليلاً. يتجه نحوي
.. يضع حمولته من الدفاتر الجديدة، على تلك الطاولة التي تفصلنا .. ويسألني
مستعجلاً ماذا أريد. كنت
سأطلب منه ظروفاً وطوابع بريدية ، عندما ......... ) " فوضى الحواس ، ص 374 -
375 ".
في 20 / 8 / 1995م كتب الجميل نزار قباني من
لندن ( مجنون، ومتوتر، واقتحامي، ومتوحش، وإنساني، وشهواني .. وخارج على القانون
(الراوية
قصدية مكتوبة على كل البحور .. بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر الإيديولوجية، وبحر
الثورة الجزائرية بمناضليها ومرتزقيها، وأبطالها وقاتليها، وملائكتها وشياطينها،
وأنبيائها وسارقيها..
(هذه
الرواية لا تختصر ذاكرة الجسد فحسب، ولكنها تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والحزن
الجزائري، والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي ..
(وعندما
قلتُ لصديق العمر سهيل إدريس رأيي في رواية أحلام، قال لي: لا ترفع صوتك عالياً .. لأن أحلام إذا سمعت
كلامك الجميل عنها، فسوف تُجّن …
أجبتُه: دعها تُجّن … لأن الأعمال الإبداعية
الكبرى لا يكتبها إلا مجانين !!!).
شخصيات الرواية
في ( ذاكرة الجسد ) – والتي اكتشفنا فيما بعد
أنها رواية داخل راوية – هناك شخصية خالد بن طوبال – الراوي – ذلك الذي بدأ حياته
مناضلاً وانتهي به الأمر رساماً بعد أن فقد ذراعه اليسرى في حرب التحرير. سكنته
مدينته قسنطينه فحارب مع غيره المحتل عن أرضها وبقية الأرض الجزائرية ورسم قناطرها
وجسورها في بلد المستعمر ( بكسر الميم ) فهل كان ذلك تحدياً آخر للمستعمر.
) كاترين ) وقفت كموديل في مرسم بالجامعة ورسمها خالد ضمن من رسموا ولكن
اكتفاء فرشاته فقط برسم وجه كاترين غاضة الطرف عن جسدها العاري كان مدخلاً لعلاقة
امتدت بين كاترين الفرنسية وخالد الجزائري لما يربو عن العامين وانتهت بعودة
الأخير إلى مسقط رأسه تاركاً مرسمه بلوحاته لكاترين.
) سي الطاهر ) والد أحلام، استشهد في حرب التحرير الجزائرية وقد زامله خالد
في الجبهة وكان الأول قائداً للثاني .. تجمعت فيه خصال القائد الفذ وقد جاء إلى
المعارك وهو عريس مفضلاً ملازمه الأرض الجزائرية عن ملازمه عروسه.
) زياد الخليل ) فلسطيني قدم للجزائر مدرساً، أحب إحدى الجزائريات هناك لكنه
لم يتزوجها مفضلاً الزواج من ( القضية ) بعد استقلال الجزائر عاد إليها لينشر
ديوان له فيها وحدثت مشادة بينه وبين خالد بن طوبال كانت السبب في نشوء صداقة
متينة بينهما.
(أحلام
) ابنه الشهيد الطاهر عبد المولى، كاتبة وناشرة للقصة بلغتها الأم. ولدت بتونس
بعيداً عن والدها الذي سماها أحلام من على البعد وقد كانت تحمل - مؤقتاً – اسم
حياة لحين وصول اسمها من والدها الذي حمل خالد عناء تسجيله في سجل المواليد. التقت
خالد بعد ( 25 ) عاماً في صالة بباريس تضم معرضاً للأخير وتحابا لكن حبهما لم يتوج
بزواجهما وإنما بزواج أحلام من ( سي ...)
(سي
.... ) أحد المجاهدين في حرب التحرير الجزائرية والذي تنكر لمبادئه وتصالح مع
فرنسا في استعمارها الجديد للجزائر عقب استقلال الأخير. أضحى من كبار الضباط الذي
تولوا حقائب وزارية في فترة ما بعد الأستقلال.
) سي الشريف ) عم أحلام، ناضل مع غيره في حرب التحرير وكان مع خالد و( سي
مصطفى ) في خندق واحد إبان المعارك وانتهي به الأمر ملحقاً للسفارة الجزائرية في
فرنسا بعد أن شابه حاله – آخر الأمر – حال ) سي ... ) و ( سي مصطفى ( .
(حسان
) شقيق خالد، عمل بالتدريس مفضلاً البقاء في قسنطينة. كان مثقلاً بالأطفال وهم
تدبير معيشتهم. مات مقتولاً بالصدفة من رصاص أحد متأسلميّ الجزائر.
في ( فوضى الحواس ) ترافقنا شخصية أحلام ولكن
هذه المرة في تجربة أخرى حيث تكتب قصة فتحب بطلها وتلتقي به في صالة سينما وتتوثق
علاقتها بصديقه معتقده أنه هو. وبعد أن تقرأ نعيه في الجريدة تكتشف أنها أحبت
الشخص الخطأ ومن أحبته لم تلتقي به إلا في مرات قلائل آخرها كان عند قبره.
(صاحب
النظارة السوداء ) صحفي أصيب إصابة عمل أدت لحدوث شلٍ في ذراعه اليسرى أهداه صديقه
( عبد الحق ) رواية لأحلام ليقرأها في فترة النقاهة فأحبها وأحب كتابها وعزم على
لقائها ونشأت بينه وبين أحلام علاقة حب محمومة انتهت بفراقهما واختفاءه.
) عبد الحق) صحفي مناضل التقته أحلام في بداية الرواية الثانية ( فوضى الحواس)
في صالة للسينما ثم التقته بمقهي وفي المرة الثالثة أثناء قراءتها لنعيه وكان
اللقاء الرابع والأخير أمام قبره.
تتبلور في رواية ( فوضى الحواس ) شخصية ناصر
شقيق أحلام والذي يصغرها بثلاث أعوام وكان قد ترآي لنا في ( ذاكرة الجسد ) في
فصلها الأخير حينما رفض أن يشهد عقد قران أحلام على ( سي ... ) في قسنطينة مفضلاً
ملازمه المسجد. يتحمل ناصر عبء حمل أفكار والده النضالية وثبوته على المبادئ ولكنه
ينحرف بها قليلاً بعد أن يلتحق بالأصوليين الجزائريين. اعتقل من قبل الشرطة
الجزائرية فغادر الجزائر إلى ألمانيا.
زوج أحلام – ربما هو ( سي ... ) – ضابط في
الجيش الجزائري يتولى منصباً هاماً في الحكومة الجزائرية علاقته بأحلام علاقة
سطحية كما أنه لم ينجب منها أطفالاً أما علاقته بناصر فيشوبها التوتر المتبادل.
السائق ( عم أحمد ) تتجلي فيه طيبة الشعب
الجزائري ووطنيتهم شارك في حرب التحرير وانتهى به الأمر قتيلاً بالصدفة أيضاً
أثناء أدائه لعمله حينما اصطحب أحلام في نزهة لها فوق جسور قسنطينة.
عن أحلام مستغانمي
ما رأيكم أن نجلس هذه المرة إلى أحلام
مستغانمي الروائية الجزائرية التي كتبت رواية )عابر سرير ) وقبلها كتبت ( ذاكرة الجسد ) و(
فوضى الحواس) دعونا نتعرف عليها
عن قرب
إعترافات ... على مشارف الختام
عن نفسي فقد أثرت الراوية في ذاتي كثيراً ولم
يحدث لي ذلك منذ عام 1999 حين قرأت للأديب الطيب زروق قصة ( شجرة الورد ) والتي هي احدى قصص مجموعته
القصصية ) الشيء الذي
حدث ) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر في عام 1970
وها أنا ذا أتأثر مرة أخرى دون
قصد مني فأدرج في مقدمة الحوار الذي اجريته مع صديقي الصحفي مصطفى سيد لصالح صحيفة
الشارع السياسي وكان حوارنا مع فنان افريقيا الأول الفنان الراحل المقيم محمد وردي.
في مقدمة تلك الحوار ادرجت عبارة (جلسنا في حضرته فإذا بنا نجلس في حضرة الوطن )
وكما ورد اسمي في مقدمة الحوار دون علمي فقد جاء الاقتباس من رواية أحلام مستغانمي
دون علمي كذلك.
حول الرواية
هل كانت أحلام مستغانمي تكتب الرواية بقلبها؟
يحاصرك السؤال السابق طول قراءتك للرواية بجزيئها الاثنين منذ الصفحة الأولى في (
ذاكرة الجسد ) وحتى الصفحة
الأخيرة في (فوضى الحواس ).
استعانت أحلام مستغانمي بالدارجية الجزائرية
– كثيراً – أثناء
كتابتها للحوار، دون أن تكلف نفسها عناء شرح المفردات والتي قد تبدو – أحياناً - عسيرة الفهم على القارئ غير
الجزائري مما أضفى على الروايتين سحراً وجعلها جزائرية النكهة.
(
- تعرف يا عمي أحمد .. هاذي أول مرة نجي فيها هنا .. كل ما نوقف قدام قنطرة ..
تجيني الدوخة .. القناطر تخوفني.
رد علي بنبرة الأبوة:
- ما تخافيش يا بنتي .. المومن ما يخاف غير من ربي.
واصلت وكأنني أعاتبه على اختياره هذا المكان:
- ما على باليش علاش تحب القناطر .. نقولك الصح .. أنا نكرها.
أجابني بمنطق البسطاء:
- حتى واحد ما يكره بلادو .. واش تكون قسنطينة بلا قناطرها .. إيه لو تنطق
هاذا القنطرة يا بنتي ... ) " فوضى الحواس ، ص 108 "
تتجلى في الروايتين سعة اطلاع أحلام مستغانمي
فلا يخلو فصل من فصول الروايتين من ذكر اسم لكاتب أو حديث عن رواية له أو ( تناص (-
أعني إيراد نص لكاتب داخل النص الأصلي للرواية – فتعبرنا أسماء مثل ( زوربا ( و ( ألبير كامو ) و( غيفارا ) و( أندريه جيد ) و( السياب ) وغيرهم. فضلاً عن تأثر أحلام مستغانمي بكتابات مالك
حداد حتى أنها ذيلت إحدى صفحاتها بالحاشية التالية ( الجمل المكتوبة بخط مميز مأخوذة عن تواطؤ
شعري من روايتي مالك حداد " سأهبك غزالة " و" رصيف الأزهار لم يعد يجيب" )
" ذاكرة الجسد – ص 30 "
ظلت القضية الجزائرية حاضرة في الروايتين،
حيث كانت استدعاءاً للذاكرة في رواية ( ذاكرة الجسد ) بينما كانت في رواية ( فوضى
الحواس ) هي الراهن.
تميزت الروايتين باللغة العالية لأحلام
مستغانمي تجعل الرواية في منزلة بين المنزلتين – على حد تعبير المعتزلة – فهي
بأحداثها ومشاهدها رواية وبلغتها الرصينة وتعابيرها الخلابة ديوان شعر. ولأحلام
مستغانمي فلسفة واضحة تجاه الحياة تفضحها الروايتين.
ماذا يمكن أن يقال في خاتمة هذه المقالات ؟
وكيف يمكنني أن أنيخ قلمي هنا وقد نالني من المتعة الشيء الكثير عندما قرأت
الروايتين وحينما أردت الكتابة عنها وعندما فعلت ذلك.
مزمل الباقر
أم درمان في 25 ديسمبر 2004م
Comments